English | العربية | Bahasa Indonesia | Urdu | Türkçe

شكر وتقدير

أود أن أتقدم أولا بشكري وامتناني لعدد من العلماء والأصدقاء الذين بذلوا جهدا كبيرا في قراءة المسودات السابقة لهذا المقال وقدموا في هذا المجال اقتراحات لا تقدر بثمن. هذا مع التأكيد على أنني المسؤول الوحيد عن جميع الآراء المطروحة في هذا المقال وعن أية أخطاء فيها. ومن هؤلاء كل من زارا خان وجوناثان براون وعمر أنشاصي ومحمد السيد بشرى وكارل شريف الطبجي ومبين فايد وغيرهم آخرين. لقد ذهب كل منهم إلى أبعد من ذلك لتقديم العديد من الاقتراحات والتصحيحات والمراجعة سطرًا بسطر. كما أتوجه بخالص امتناني أيضًا إلى المسؤولين في مركز يقين الذين شجعوني على الكتابة حول هذا الموضوع المليء بالتحديات، وإلى العديد من الطلاب في أماكن مختلفة بدءا من أمريكا الشمالية إلى كل بلد مسلم تقريبًا الذين قمت بتدريس هذه المادة في أشكال مختلفة لهم، والذين كانت أسئلتهم والرؤى والتطلعات لديهم مصدر إلهام حقيقي لهذه الورقة. وأخيرا وليس آخرا، أنا ممتن حقا للسيد إياد هلال ومحمد. الحنيني على ترجمتهما الدقيقة للنص الأصلي إلى اللغة العربية‏.‏

من يريد الخلافة؟

كلمة لا مثيل لها: ”الخلافة“. حقّا، إن هذه الكلمة تستدعي للبعض آمالا عريضة وذكريات عميقة بينما تستدعي مخاوف مشؤومة لآخرين. منذ حوالي أربعة عشر قرنًا، مع بعض فترات الانقطاع، كان العالم الإسلامي مرادفًا للخلافة. لقد أرسل فقدان الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى موجات متتابعة صادمة ومحزنة بشكل كبير في جميع أنحاء بلاد الإسلام، ولا شك أن فكرة إعادتها ألهمت العديد من الحركات والمشاريع الفكرية. ومع ذلك فإن جاذبيتها انحسرت بعد الحماس قصير العمر الذي وجد أثناء العمل لبناء الدول القطرية بعد التحرر من الاستعمار في ظل الحرب الباردة. واليوم، حيث أصبح فشل بناء الدولة القطرية هذا واضحًا بشكل مذهل أكثر من أي وقت مضى، وفي وقت يؤدي الاقتصاد النيوليبرالي وأزمة المناخ العالمية بمزيد من الضحايا، وفي زمن يتجه النظام العالمي نحو التراجع عن العولمة ونحو الاهتمام بالقوم وسكان القطر، لهذا كله، فإن فكرة الخلافة، باعتبارها البديل الحضاري الوحيد القادر على حماية مصالح الفئات الأكثر ضعفاً، ستصبح أقوى بين المسلمين على مستوى العالم. ومع أنها بدأت للتو في جذب انتباه العلماء، فإنه مع كل انتفاضة تُقمع في العالم الإسلامي، ومع كل حلقة جديدة من الإرهاب والحرب العقابية، ومع كل انتهاك جديد للمسلمين يمضي دون دفع أي ثمن لهذه الانتهاكات، ومع كل جدار جديد يُقام في أوروبا وأمريكا، فإن فكرة الاتحاد الإسلامي تفوز بالمزيد من المؤيدين.‏

لقد كان الزخم الأخير الذي أعطي لفكرة الخلافة الجيدة هو قيام دولة “خلافة” سيئة مؤخرا. لقد أدى الصعود السريع والسقوط المخزي لما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا (المعروفة أيضًا باسم “داعش”: الدولة الإسلامية في العراق والشام)، بكل ما تحمله من وعود ورعب، إلى تركيز قوة هذه الفكرة. حتى القادة الشعبويون في المنطقة ألمحوا تجاهها، وأكثرهم كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي استفاد من الحنين الإسلامي العالمي المتنامي إلى الخلافة العثمانية. لا بل أعلن مؤخرًا أن جمهورية تركيا هي ما هي إلا استمرار للإمبراطورية العثمانية. واضح أن “السلطان أردوغان”، كما يسميه معجبوه بمودة، يملأ الفراغ الذي يشعر به كثير من المسلمين في جميع أنحاء العالم بلهفة متزايدة1 مع أن سلطة الرئيس التركي قد تكون قصيرة الأجل، إلا أن التطلعات التي أثارها ليست كذلك.‏

منذ وقت ليس ببعيد، تم أحيانا تصوير دعاة إحياء الخلافة بشكل غير عادل، على أنهم متعصبون أو رومانسيون أو تقليديون متشددون، كما تم تصويرهم تارة بأن ما لديهم مجرد الحنين إلى عصر ذهبي زعم منتقدوه أنه لم يكن كذلك أبدًا. أما التيار الإسلامي العام، والذي يميل بشكل متزايد، أو أضطر أن يميل، إلى تبني سياسات الدولة القطرية، فقد اتخذ مواقف تتراوح بين رؤية موازية للسياسات الديمقراطية المسيحية العلمانية في أوروبا إلى اعتراف خجول بأن اتحاد دول مسلمة، أو عربية على الأقل، من الممكن أن يكون على شكل اتحاد كونفدرالي بين الديمقراطيات الإسلامية على غرار الاتحاد الأوروبي، هذا التصور كان بالفعل مرغوبًا فيه، وإن كان بعيد المنال. لقد فشل هؤلاء البراغماتيون إلى حد كبير، على الرغم من كل تنازلاتهم في تحقيق أهدافهم السياسية أو حتى تجنب الاضطهاد الجماعي. وكما أظهرت الأحداث التي أعقبت الانتفاضات العربية في عام 2011، فإنه يبدو أنهم يخسرون النضال لكسب تأييد الشباب المسلم لرؤيةٍ أحدث وأكثر جرأة وتحديا. بينما تنتشر الصور الواقعية والافتراضية لعجز الجماهير الإسلامية وتنمو خيانة النخبة المسلمة، تعلو فكرة الأمة – مجموع المسلمين في العالم – أكثر فأكثر، وتتعمق وتتجذر بشكل أكبر، كما يعلو أيضًا مكملها الطبيعي – الخلافة: حكومة موحدة لرعاية جميع المسلمين وخاصة المنسيين المهمشين منهم. ومع ازدياد اتساع هؤلاء المهمشين، والتي يفوق عددها بكثير عدد القطاع السكاني المحمي بالامتيازات وغيرها والذي يقل بدوره شيئا فشيئًا في العالم الإسلامي، ومع اتساع هذه الفروق تنمو وتزيد الدعوة للخلافة قوة وحدة.‏

لقد سلط مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة نيويورك تايمز الضوء على القوة المستمرة لفكرة الخلافة بين المسلمين في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الذين يبغضون تنظيم الدولة الإسلامية ويدينون بشكل قاطع عنفه وكذلك نظرته الدينية. ووجدت الكاتبة من خلال تحقيقها أن الخلافة، “كانت فكرة تتمتع بجاذبية أكبر مما أراد كثيرون في الغرب الاعتراف به” 2.يبدو أن الأحداث المتتالية – والسياسات السيئة التي تخدم المصالح الذاتية للطغاة في الشرق الأوسط والانقسامات التي تزداد عمقًا بسبب العنف الطائفي – أدت إلى “تبنٍ واسع النطاق لهوية إسلامية جماعية عالمية وسياسية بشكل علني والتي دفعت بالشباب المسلم أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم مجتمع جماعي ينبغي أن يقدم له الوطن حلولا للظروف الصعبة التي يمرون بها.”3

بالمقابل، فإن الاعتراضات على فكرة إحياء الخلافة تبدو هائلة. هذه الاعتراضات على ثلاثة أنواع: أنها غير مرغوب فيها، أو غير ممكنة التحقيق، أو أنها غير ضرورية دينياً. فيما يتعلق بالناحية الأولى فإنهم يقولون إنها أمر غير مرغوب فيه لأن الخلافة نظام سياسي استبدادي من العصور الوسطى (إذا كان من الممكن تسميته نظامًا على الإطلاق)؛ ثم إنها تشير إلى عصر بدائي قبل حقوق الإنسان والتقدم والمواطنة والديمقراطية والحرية الدينية. علاوة على ذلك، فهي مرتبطة بجماعات إرهابية مثل داعش وتجذب أسوأ أنواع الاهتمام والانتباه من كل من مؤيديها وخصومها. أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي عدم إمكانيتها فذلك لأن الدولة القطرية، مهما كانت عيوبها، فإنها باقية. أخيرًا، فإنها غير ضرورية من الناحية الدينية لأن الخلافة، بداية، ليست كما يُزعم مؤسسة دينية إسلامية، ولكنها مؤسسة تاريخية لم توجد في الواقع لفترة طويلة في شكلها المثالي كسلطة موحدة لجميع المسلمين. وسأقوم في هذا المقال، بتقييم ونقد هذه الادعاءات كلها.‏

إن الجدل حول الخلافة يحركه، جزئياً، غموض حول أهميتها. ذلك أنها قد تستدعي إلى الأذهان، خاصة لمنتقديها، حكما ثيوقراطيا مطلقا من القرون الوسطى لحكم الرجل الواحد. كما أنها قد تستدعي لأذهان مؤيديها الإصلاحيين، كونفدرالية من الحكومات الإسلامية على غرار الاتحاد الأوروبي (وهو شكل يفترض أن يحقق نهاية سعيدة!). وبالنسبة للبعض الآخر، فإن نظام الخلافة هو بديل ما قبل الحداثة للأنظمة السياسية المعاصرة. وبالنسبة للآخرين، هو اتحاد ما بعد الحداثة لدول ديمقراطية ذات أغلبية مسلمة.‏

كلا النوعين من وجهات النظر غابت عنه ناحية مهمة تتمثل في مدى الترابط القوي والثراء الكبير في الأبحاث التقليدية في التراث الإسلامي حول الخلافة. وهما أمران يحتاجان إلى البحث والتحليل.‏

إذا فهمت الخلافة على أنها حكومة تقوم على أساس عادل وخاضع للمحاسبة، وعلى أنها اتحاد لا مركزي بين مختلف الحكومات الإقليمية الإسلامية، وفي الوقت نفسه يأخذ حقوق الإنسان بعين الاعتبار، مع اقتصاد ودفاع موحدين، فإنني والحالة هذه أرى أن الخلافة قد تكون الطريقة الوحيدة لتجنب المزيد من التدهور المتصاعد للمجتمعات والدول الإسلامية إلى إقطاعيات إرهابية، ولا سمح الله، إلى حرب عالمية ثالثة.‏

بالنسبة للقول إن فكرة الخلافة – أو الخلافة المثالية – غير ممكنة لمجرد أنها لم تعد قائمة، فإنها مقولة لا تستند إلى أكثر من مجرد قصور في الخيال الخلاق، وافتقار إلى الجرأة في التفكير. فإن الديموقراطية مثلًا قد بدأت حياتها بطريقة محدودة في مدينة يونانية صغيرة بالكاد كانت دولة، وازدهرت لمئتي عام تقريبا، ثم اختفت بعد ذلك للألفي سنة التالية.4 حتى في تجسدها الثاني، ظهرت -الديمقراطية- على أنها فكرة غير لافتة للنظر في البداية؛ فقد رأى الآباء المؤسسون الأمريكيون للدستور والنخبة الأمريكية في فكرة “الديمقراطية الجمهورية” (republican democracy) على أنها متناقضة في ذاتها، ولكن في النهاية خضعوا للضغوط الشعبية.5 لذلك فإن مجرد عدم رواج فكرة ما لا يعني إطلاقًا أنها فكرة غير قابلة للتحقيق.‏

إن أقل ما يقال، إن الخلافة تعني الوحدة الإسلامية التي يُعبر عنها بشكل سياسي، وعلى هذا فهي بالتالي ليست فكرة يحتاج المسلمون لإعادة اختراعها من جديد. إنها موجود في كل درس قرآني عن تعايش الناس، وموجود في كل موعظة نبوية، وفي كل خطبة جمعة حتى يومنا هذا. عبر التاريخ، اتفق المسلمون على الحاجة إلى التطبيق السياسي لهذه الفكرة. إن الخلافة لم تسبق الشريعة الإسلامية فحسب، بل كانت شرطًا لميلاد الشريعة وتماسكها في الواقع، لم تشمل الخلافة دائمًا جميع المناطق الإسلامية، وكانت فكرة الوحدة الإسلامية الشاملة بمثابة طموح نادرًا ما تم تحقيقه. في هذا الصدد، لا تختلف الخلافة المثالية عن الديمقراطية المثالية، أو حتى عن الدولة القطرية المستقلة. نادرًا ما تتحقق مثل هذه التطلعات الجماعية في أشكالها المثالية، لكنها مع ذلك تلهم العمل الأخلاقي الشخصي والجماعي لغالبية البشرية في أي عصر. أنا أسمي هذه المثل العليا مقاربة المثل العليا. الخط المقارب (asymptote)  (سيتذكره المعجبون بحساب التفاضل والتكامل في المدرسة الثانوية) هو خط يقترب من المنحنى ولكنه لا يقابله عند أية نقطة محددة.‏

إن المثالية المقاربة ليست هي نفسها المثالية الفاضلة: فإن المثالية المقاربة هي حقيقية وهي فكرة واقعية ويمكن تحقيقها في بعض الأحيان، لكن السعي نحو كمالها يظل دائما عملا دؤوبا مستمرا. ولقد عبّر المنظر السياسي شيلدون ولين عن نفس الفكرة عندما استخدم لوصف الديمقراطية مستدلا على هشاشتها وعدم استمرارها صفات مثل “العَرَضي” (accidental) بمعنى الأمر الطارئ أو “الهارب” (fugitive) بمعنى الذي يظهر ويختفي كما الهارب.6 وفي الواقع فإن كل المُثُل البشرية ذات المعنى التي تستحق العيش من أجلها، بما في ذلك المُثُل الدينية الإسلامية، هي مثل مقاربة، مثل سنة النبي الحبيب محمد ﷺ. إن تجنب المعصية، وتفضيل الله دائمًا على من سواه، والاتصاف بالعدل والصدق والشجاعة، كل هذا جزء من المثالية المقاربة التي نتحدث عنها. لا شك أن النزوع إلى المثل العليا المقاربة للفرد هي أقوى مؤشر على إيمان المرء. إن المؤمنين الحقيقيين بالديمقراطية أو الليبرالية أو الرأسمالية أو الاشتراكية هم أولئك الذين يتمسكون بهم حتى عندما يبدو أنهم يفشلون. وكذلك تعتبر الوحدة السياسية للمسلمين واستمرارية الحكم على النهج النبوي أحد هذه المثل العليا التي ما زالت جزءًا من الهوية الإسلامية عبر التاريخ وهي تستند، كما سأوضح أدناه، إلى اعتبار أنها جزء من ضرورات الإسلام.‏

لم تكن الخلافة المدينة الفاضلة حتى في أفضل أيامها. لذلك، يجب علينا رفض إضفاء الطابع الرومانسي على الخلافة كمؤسسة والظن أنه يمكنها بطريقة سحرية، وبمجرد إعلان إقامتها، أن تضمن استقلال المسلمين ورفاهيتهم وحل جميع مشاكلهم. بالإضافة إلى هذا، فإن الخلافة لم تستمر في الوجود بشكل متواصل وبدون إشكالية طوال أربعة عشر قرنا. ومع ذلك، فإن بعض الباحثين يعتقدون أن الخلافة استمرت قائمة بإجماع المسلمين خلال أربعة عشر قرنًا، واستمرت قائمة وفق هذه المثُل. يرون هذا دون إدراك أن تطبيق مثل هذه النظرة المثالية على أي ناحية يعني في الواقع القول بعدم تحقق هذه الناحية. فمثلا من الواضح أن الإجماع في الإسلام انعقد على تحريم الحنث باليمين وحرمة الربا وتحريم قتل الأبرياء، وما إلى ذلك، ولكن هذا الإجماع لا يعني مطلقا أن هذه القواعد تم الالتزام بها دائمًا من الجميع بشكل كامل في الحياة الواقعية. هذا الانتقاء الاختياري (قبول وقوع المخالفات في مثل هذه الأمثلة السابق ذكرها مع الإصرار في الوقت نفسه على عدم وقوع مثل هذه المخالفات فيما يتعلق بالخلافة) يذكرنا بشراسة موقف الخوارج تجاه المسلمين الآخرين. ذلك أنهم (أعني الخوارج)، قدّموا أيضًا منذ البداية نموذجًا زائفًا بشكل تعسفي – القرآن وحده، كما فهموه، ويمكن فهمه (حسب زعمهم) دون الاستعانة بالسلطة الحية التي عاشت نزول القرآن الكريم (الرسول الكريم)، ثم أدانوا كل من رأوا أنه قصر في ناحية ما. وعلى وجه التحديد، كره الخوارج الحكم غير المثالي من قبل الخلفاء وحتى من قادة طوائفهم. ومع هذا، فإن اعتبار كون الخلافة السابقة لم تكن موحدة بالكامل وأخذه كدليل على أنها لم تكن موجودة، فإنه بناء على هذا القياس يمكننا أن نجادل بالمنطق نفسه أنه لم يكن هناك مسلمون في التاريخ لا لشيء إلا لأنهم كانوا جميعًا غير كاملين، تمامًا كالقول إنه لا توجد ديمقراطية لأن كل الديمقراطيات غير كاملة. كل هذه الحجج منافية للعقل بنفس القدر.‏

هناك، بالطبع، علمانيون معاصرون يزعمون بداية بأن استقلال المسلمين السياسي ووحدتهم جميعا، كما هو متضمن في فكرة الخلافة، ليست أهدافًا مرغوبة ولا مُثلًا دينية أصلا. بعد هذا العرض، سننتقل الآن لنقاش هذه الحجج. النقطة التي تم الاتفاق عليها حتى الآن هي أن مجرد الإشارة إلى العيوب التاريخية ليست حجة ضد إمكانية تحقق الخلافة. يجب أن نعترف أن مسألة جدوى الفكرة وإمكانيتها عنصر مهم في تقييم الفروض وترتيبها حسب الأولوية في الفقه الإسلامي، لذلك بدلاً من تجاهل الفكرة وطرحها جانبا، يجب أن نناقش الفكرة نفسها، كما سنقدم في هذا المقال.‏

أضف إلى ذلك هنالك مسألة الرغبة في فكرة الخلافة. من وجهة نظر المؤمنين بها، فإن مسألة الرغبة تخضع دائمًا لمسألة الأمر الإلهي. فمن المسلم به أن أوامر الله هي من أجل مصلحتنا، حتى عند عدم قدرتنا على فهم هذه المصلحة: “والله يعلم وأنتم لا تعلمون.”7 ولكن يجب أن يلاحظ أن أي أمر معين من الله يجب أن يفهم من خلال بنية الفقه الإسلامي الذي يتكون من الأوامر والنواهي والمندوبات مرتبة (بشكل مختلف من قبل علماء مختلفين) من حيث الأولويات والقدرات الفردية والجماعية واليقين المعرفي حول وضع هذا الأمر. فيما يلي، نتناول بإيجاز موضوع إقامة الخلافة كأمر شرعي. أما بحثها بشكل مستفيض فهو خارج حدود هذا البحث.‏

لقد اعتبر بعض علماء الإسلام البارزين، مثل حجة الإسلام الغزالي، الخلافة واجبًا، كالعبادة، بغض النظر عن فعاليتها، وبالتالي فقد فصلها عن وظيفتها أو منفعتها السياسية. أما شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الحرمين الجويني، وغيرهما، فقد ركزوا على وجوب وجودها عقلًا. ومن الواضح أن هذا الرأي الأخير هو الأكثر إقناعًا. إن أي تحرك نحو إعادة إحياء مثل هذه المؤسسة العالمية يجب أن يقدم حجة مقنعة لقدرتها على معالجة التحديات الملحة التي تواجه المسلمين سواء أكانت التحديات سياسية أم كانت اجتماعية واقتصادية وبيئية. وأي محاولة لتجاوز الوضع القائم – والذي سنعرفه على أنه نظام الدولة القطرية – لصالح الوحدة الإسلامية الشاملة في العالم الإسلامي يجب أن تتناول وتدخل في حوار طويل وصعب حول هذه الأمور. علاوة على ذلك، يجب أن يشمل هذا الحوار حول إعادة البناء ليس فقط جميع المسلمين، ولا سيما المحتاجين إلى رعاية والمحرومين من حقوقهم، ولكن يجب أن يشمل أيضًا المواطنين غير المسلمين في الأراضي الإسلامية، والجيران الإقليميين، والعالم الأكاديمي والعلمي.‏

باختصار، للتدليل على وجوب الخلافة يجب أن يتم بالاستدلال بالنصوص الشرعية والتراث الفقهي الإسلامي ولكن بالإضافة إلى النصوص الشرعية، فإنه لا بدّ لإثبات إمكانية وجودها وتأييدها، من أن يتحول المرء أيضًا إلى التاريخ والسياسة (أي ما يسمى بفقه الواقع). في الواقع، كما في أي قضية معينة، يجب أن يرتبط هذان النوعان من الخطاب بشكل جدلي بين الفقه والواقع. إذا تم عرض القضية بشكل صحيح مع وضع هذه الاعتبارات في الذهن، فإن النتيجة ستكون مفضلة لمعظم الأشخاص ذوي النوايا الحسنة في جميع أنحاء العالم، وليس فقط المسلمين.‏

هناك أسباب مقنعة وبتزايد أكثر لطرح هذه الفكرة -فكرة الخلافة- اليوم. ذلك أنه على مدى العقود القليلة الماضية، فقد زادت العولمة بشكل كبير من وعي المسلمين بأحوال المسلمين الآخرين وزادت كذلك من وعيهم في جميع أنحاء العالم على وحدة حالهم ورؤيتهم. وفي الوقت نفسه، اتسعت الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون بشكل كبير في كل المجتمعات. لقد ألقى ما يسمى بالربيع العربي في عام 2011 الضوء على القواسم المشتركة للوضع العام لما يقرب من عشرين دولة ناطقة باللغة العربية. إن تحركات وردود أفعال هذه الانتفاضات لم تنته بعد. في الوقت نفسه، أظهرت المآسي التي تلت ذلك في كل بلد تقريبًا خواء السيادة القومية، حيث قامت الملكيات القائمة على النفط والمستبدون العسكريون عبر الحدود القُطْرية بتوحيد الصفوف ضد حركات الاحتجاج الشعبية. وكذلك هدم الربيع العربي واجهة المؤسسات الدينية الرسمية التي وقفت مؤيدة للمجازر والسجون. تحت وطأة الثقل الساحق للأوضاع السياسية المفتقدة للشرعية والمطلقة وإفلاس المؤسسة الدينية، أصبحت المجتمعات الإسلامية عاجزة وبشكل متزايد على توفير حياة إنسانية لائقة، وعاجزة عن التعامل مع على مثل هذه الظروف غير المحتملة والتي تشمل العنف المستشري ومنه الإرهاب، ولكن الأهم من ذلك تشمل أيضا الأفراد والجماعات المقهورة التي عادة ما تكون أيضًا أكثر عرضة للعنف فيما بينهم، كما تشمل أيضا العنف المنزلي. وكذلك تشمل خيبة الأمل الدينية أو التعصب، والاستخفاف بالناحية الخلقية بشكل عام.8

على الصعيد العالمي، بدأ نموذج الدولة القطرية في الانهيار منذ إعلان القوى العالمية للسياسات النيوليبرالية في الثمانينيات. ظهر هذا القلق في المؤلفات ذات العناوين المؤثرة التي بدأت بالظهور منذ التسعينيات، مثل: “نهاية الدولة القطرية ” (العديد من الدراسات تحمل مثل هذا العنوان)، ومثل: “صراع الحضارات”9، وأيضا: ” الجهاد مقابل عالم المكدونالد: كيف تعيد العولمة والقبلية تشكيل العالم 10، و “نهاية اللعبة: أسئلة في الفكر السياسي الحديث“11. تتحدث هذه الأدبيات عن تفكك الدولة القطرية التقليدية وعن ظهور الرأسماليين العالميين يتعاونون مع رجال أقوياء في المناطق المختلفة مصممين على تكديس الثروة وتأمين سلطتهم على حساب أعداد فئات متزايدة من الناس. هذه القوى مجتمعة أعادت توجيه أجهزة الدولة القطرية. ويجب أن يلاحظ أنه حتى في أفضل أيام الدولة القطرية (من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية)، كانت الدولة القطرية تتكون من توافق لمصالح معينة تخفي نفسها وراء واجهة نظام دولي مجرد. لقد استوعب باحث أمريكي بارز في العلاقات الدولية في جامعة ستانفورد هذه الفكرة في كتابه السيادة: النفاق المنظم12 حيث يبين كتابه أن السيادة المدعاة في الدول الضعيفة قد تم اختراقها من قبل القوى الكبرى، ولكن هذا التظاهر بالسيادة كان مفيدًا في إبقاء أنواع مقبولة من العملاء في السلطة.‏

تشير الكثير من الأدبيات المتعلقة بنهاية الدولة القطرية إلى عدم قدرة هذا النظام على التعامل مع أكبر الأزمات في عصرنا، من تغير المناخ الذي تسبب فيه الإنسان، وعدم المساواة في الدخل إلى أزمة اللاجئين المتزايدة (تزايد عدد غير المواطنين في الدولة الواحدة)، وتوصي هذه الأدبيات بالتعاون الاقتصادي الإقليمي أو العالمي كمخرج. 13 المفارقة في كل ذلك هي أن المسلمين تاريخيا كانوا الأقل استفادة من الثورة الصناعية، لكنهم سيكونون أول أهداف عواقبها الحتمية وهي الكارثة البيئية. “نحن نتجه نحو (الفصل العنصري المناخي)، حيث سيعاني الفقراء بينما ينقذ الأغنياء أنفسهم، كما يحذر تقرير مرعب للأمم المتحدة“.14 يمكن للمسلمين أن يكونوا على يقين من أن هذا السيناريو سيتحقق في أكثر أشكاله الجهنمية في الممالك التافهة والدول ذات النظم العسكرية التي يسكنونها. باختصار، بالنسبة للمسلمين، إن نظام الدولة القطرية، كان وما يزال، وحشيًا، ومثيرًا للانقسام، وشيطانيا. هذا ليس فقط لأنه تم التخطيط له من قبل المستعمرين المغادرين منذ البداية لتقسيمهم والسيطرة على مواردهم، ولكن أيضًا، كما نوضح أدناه، لأنه يتعارض بنيوياً مع الإسلام.15

الأحلام والماضي والمستقبل

البشر -كما هو معلوم – مخلوقات تعيش بين الذكريات والرغبات. والحياة بدون أمل يتخطى الحاضر، ودون أحلام بتحسين حالة المرء وبنفس الوقت إنقاذ الذين نحبهم، هي كابوس مرعب. غالبًا ما يولِّد مثل هذا اليأس البائس شرًا عظيمًا. حتى كبار الإمبرياليين أدركوا الحاجة إلى الأحلام. قال تشرشل ذات مرة إنه إذا لم يكن المرء ماركسيًا وقد بلغ سن الخامسة والعشرين فهذا إنسان ليس لديه قلب، ولكن إذا كان لا يزال ماركسيًا في سن الخامسة والثلاثين، فهذا ليس لديه عقل. كانت الماركسية هي الدين العلماني المطلق في العصر الحديث، فهي فكرة كاملة فيما يتعلق بالعقيدة والآخرة. بالنسبة للشباب العلمانيين في شمال الكرة الأرضية، تملأ الماركسية -أو أي شكل آخر من أشكال الرؤية التقدمية- الفراغ الذي تركه الدين المتعلق بأمور الآخرة والرحمة لإنقاذ العالم والذي تفتقر إليه الرأسمالية. وبقدر ما يشكل المسلمون مجتمعا عالميا، يجب أن يمتلكوا أحلامًا وآمالًا مشتركة متناسبة في الأهمية مع وضعهم العالمي. إن السيطرة الأورويلية على الدين الرسمي وإبادة أي تعبير عن رؤى بديلة للإسلام من قبل الطغاة المتحكمين في العالم الإسلامي مسؤول بشكل مباشر عن الرؤيا والدمار العدمي المتمثل في أمثال داعش. والذي يعتبر مساعدا للطغاة في العالم الإسلامي هي الحرب العالمية على الإرهاب وشيطنة القوى العالمية لأي فهم للإسلام عدا ذاك الأكثر خنوعًا. لقد دمر هذا الوضع نفسية جيل كامل من المسلمين الألفيين (الجيل الذي ولد بين نهاية الثمانينات من القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثالثة) من خلال استقطابهم بين صنفين: أولئك الذين يشعرون بالأسف لكونهم مسلمين وغيرهم ممن يشعرون بالغضب لنفس السبب.‏

يجب أن يكون نوع الإسلام الذي يراد له البقاء في المستقبل من النوع الواثق من نفسه، والذي يكون قادرًا على إنقاذ العالم من خلاله وليس منه، (أي إنقاذ العالم من خلال الإسلام وبالإسلام لا من الإسلام!). هذه الرؤية عبّر عنها البروفيسور سلمان سيد بقوة في عمله الجريء والخلاق “تذكّر الخلافة” (Recalling the Caliphate):

إن استدعاء الخلافة يعني إدراك أن التحديات التي تواجه المسلمين كجماعة ليست تحديات دينية ولا ثقافية بل سياسية، وبالتالي لا يمكن حلها إلا ضمن إطار سياسي باسم الإسلامهذه السياسة ليس لها مضمون ضروري غير ذلك النضال خلال التسلسل التاريخي الذي افتتحته عودة النبي محمد ﷺ ]من صعوده إلى السماء[… استدعاء الخلافة، إذن، هو إعلان بإنهاء الاستعمار، إنه تذكير بأن الإسلام هو الإسلام، وأن هذا هو كل ما يحتاجه المسلمون. 16

هذا النداء طال انتظاره، فمنذ ما يقرب من قرن من الزمان، لم يُسمح للإسلام بأن يكون إسلامًا.‏

لقد انتصر النظام الغربي بعد الحرب الباردة. وقد أدرك الداعون لها، من المحافظين مثل هنتنغتون (“الآخرون مختلفون، فيجب أن نحارب الجميع”) إلى الليبراليين مثل فوكوياما (“نحن نهاية التاريخ، يجب علينا إدماج وإذابة الجميع”)، كلهم أدركوا الحاجة إلى جبهات جديدة وأعداء جدد. الليبرالية (مثل توأمها الاقتصادي: الرأسمالية) تحتاج باستمرار إلى إمبراطورية وتوسعا، وقد أدى انتصارها إلى تسطيح العالم (flattened the world) تقريبًا (أي هيمنة العولمة على العالم أجمع)، لدرجة أن الليبراليين أنفسهم يتساءلون أحيانًا عما إذا كان من الممكن وجود نوع آخر من الحياة. لقد عانى عالم الأنثروبولوجيا كليفورد غيرتز من هذه المعضلة: فهو يؤمن بتفوق الليبرالية ولكن في نفس الوقت يدرك، كعالم أنثروبولوجيا، أن هناك تنوعًا حقيقيًا في المعتقدات البشرية والثقافات وأن هذا غير قابل للاختزال. يبني زميله، ريتشارد شويدر، على هذا التوتر ويطرح سؤالًا مقنعًا: بالنظر إلى التسطيح الحالي لجميع الحضارات بواسطة الرأسمالية الليبرالية، هل الثقافة الأحادية الشجاعة في العالم هي المستقبل البشري الوحيد الممكن؟ يتكهن بجرأة بثلاثة أشكال مستقبلية محتملة، ويدعونا إلى ملاحظة ما يلي:

يبقى أن نرى ما إذا كان التاريخ سينتهي بتقديس الحضارة العالمية الواحدة (النبوءة رقم 1)، أو الانتصار العالمي للقومية الإثنية مع دولها المتعددة المستقلة (القائمة) (النبوءة رقم 2)، أو ما إذا كان البشر، بعد أن عاشوا في إمبراطوريات متعددة الجنسيات عدة مرات قبل العصر الحديث، مستعدون لفعل ذلك مرة أخرى، حتى على أسس وشروط الليبرالية السياسية (النبوءة رقم 3).17

إنه الاحتمال الثالث للمستقبل، كما يقترح، الذي يضمن وحده الازدهار والحرية الحقيقية للإنسان. وهذا هو الاحتمال الوحيد للمستقبل، كما يظهر، الذي يمكن للمسلمين تبنيه بشكل معقول: عالم من حضارات مختلفة حقًا، لكنها تلك التي ترى التعاون والتعايش وليس الصدام هدفها الدائم المتجدد.‏

إن أعظم تناقضات الليبرالية ونفاقها هو عالميتها الزائفة. وكما طرح وائل حلاق بشكل لماح في دراسته الأخيرة: إعادة صياغة الاستشراق: نقد المعرفة الحديثةOrientalism: A Critique of Modern Knowledge ،18 فإن أمثال إدوارد سعيد كان من الذين عارضوا هذا “الصدام” إنما قاموا بذلك من خلال إلغاء الإسلام كواقع حضاري. النهج الأكثر فائدة هو قبول الإسلام ككيان حضاري بدلا من طرح السؤال عما يبدو أنه حتمية “الصدام“.‏

الدم المتدفق

يقرأ عنوان مقال رأي بقلم عالم الاجتماع أرجون أبادوراي: “في جميع أنحاء العالم، دول الإبادة الجماعية تهاجم المسلمين”، “هل الإسلام هدفهم حقًا؟” وجاء في السطر التالي: “ما تقوم به إسرائيل من سجن الفلسطينيين، وما تقوم به ميانمار من طرد للروهينجا هو انعكاس لمأزق الأقليات العرقية والأقليات المزدوجة“.19 على مدى عقود، كان هذا هو السؤال الذي طرحه المسلمون على أنفسهم حيث أن معظمهم ليس لديهم شك في الإجابة. لا ينتهي المقال برؤية عميقة، لكنها رؤية طبيعية: هذه الملاحظة – التي أدلى بها عالم اجتماع هندي أمريكي، وليس أحد عملاء القاعدة ممن هم على استعداد لتفجير الأشياء انتقاما – هي التي لفتت انتباهي، أي اعتبار إهراق دم المسلم وكأنه بات طبيعيا واعتياديا.‏

نظرًا لفشل الدول القطرية ذات الأغلبية المسلمة، جنبًا إلى جنب مع دول أخرى في العالم النامي، هذا الفشل الذي أوصلها درجة أنها أصبحت غير صالحة للسكن بطريقة ملائمة للإنسان، فإن دول الشمال تبني الجدران. ولذلك في مواجهة الحرب والاستعمار والإبادة الجماعية والفساد والتلوث والمجاعة، فإن المسلمين في جميع أنحاء العالم – حتى أولئك المتدينين اسمياً فقط في حياتهم الشخصية – أيدوا بسهولة وحدة إسلامية تحميهم من المعاملة السيئة والمهينة. في عالم معولم حيث أدت حرب الغرب على الإرهاب20 إلى تسليط الضوء على إسلامية المسلمين في كل مكان. تشعر إسرائيل والصين وميانمار والهند وعدد لا يحصى من الدول الأخرى بالحرية في التعامل مع “مشكلة المسلمين” بلا تحمل لأي نوع من المسؤولية أو تحسب للعواقب. “صراعنا هو مع العالم الإسلامي بأسره، هو مع العالم العربي بأسره “، هكذا صرح سياسي إسرائيلي، مرددًا المشاعر المعادية للإسلام في أوروبا وأمريكا وفي أماكن أخرى.21 وهذا يقود إلى أنه لا مفر من تذكير المسلمين بتحذير النبي ﷺ من أن الأمم ستتداعى عليهم في يوم من الأيام، ليس لقلة عددهم، ولكن لأن أعدادهم الكبيرة ستكون بلا قيمة مثل القشة التي يحملها سيل.22

المشكلة ليست جديدة، ولن تختفي قريبا. ما كادت الحرب الباردة تنتهي حتى أعلن النقاد أن الإسلام يمثل مشكلة بالنسبة للهيمنة الثقافية الشاملة للغرب. فقد أعلن صموئيل هنتنغتون في مقالته التي صدرت عام 1993 بعنوان صراع الحضارات : “للإسلام حدود دامية“.23 وقد نسب هنتنغتون الفضل في الفكرة التي ألهمها إلى كتّاب من كلا الجانبين من الانقسام بين الإسلام والغرب. وهنا أشار هنتينغتون إلى مسلم هندي علماني الذي كتب: “سيبدأ النضال من أجل بناء نظام عالمي جديد في اجتياح الدول الإسلامية من المغرب العربي إلى باكستان”، وكذلك إلى برنارد لويس الذي كتب: “هذا لا يقل عن كونه صراعا للحضارات – ربما رد فعل غيرمنطقي ولكنه تاريخي بالتأكيد لمنافس قديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما “. لقد كانت رؤية لويس وهنتنغتون عدائية وغير دقيقة وغير متسامحة، لكنها كانت تحتوي على عنصر الواقعية الذي انتصر على آلاف الاحتجاجات الأكاديمية التي زعمت أنه لم يكن هناك مثل هذا الصدام لأنه، كما زعموا، لم تكن هناك حضارات متميزة. لكن في الواقع يوجد.‏

منذ أن كتب هنتنغتون مقالته، أصبحت الحدود أكثر دموية، ولكن ليس الحدود فقط ولكن أبعد من الحدود، فإن الأعضاء الداخلية للجسد التي تحدث عنها النبي محمد ﷺ تنهار وتنزف بينما يهاجم الجسد نفسه.‏

يتم إطلاق النار على فلسطين وتنزف حتى الموت من قبل دولة عنصرية، مستعمرة، عرقية. ويتعرض الروهينجا للحرق والإغتصاب والإبادة من قبل دولة قومية عرقية أخرى حيث تلد الأمهات الروهينجا بشكل جماعي أطفال مغتصبيهم في ميانمار. كما يُحرم الكشميريون وملايين المسلمين الهنود يوميًا من كرامتهم وإنسانيتهم وحياتهم بسبب قومية عرقية أخرى مستوحاة من الدين. وفي الصين، يتم إبادة مسلمي الأويغور في معسكرات التعذيب وغسيل المخ، حيث يُقتل رجالهم بينما‏

تُجبر نسائهم على التزواج مع رجال قومية الهان الصينيين. حتى الآن، لم تحتج أي دولة ذات أغلبية مسلمة في المنطقة بشدة – حتى الشارع الإسلامي كان صامتًا – أما الاحتجاجات الكبيرة الوحيدة فتأتي من جماعات حقوق الإنسان العلمانية، وبشكل متزايد من الدول المعادية استراتيجيًا لتقدم الصين. المسلمون في جمهورية أفريقيا الوسطى يتعرضون للتطهيرالعرقي24 وأيضا في كل من اليمن، وسوريا، وليبيا، والعراق، والصومال، والسودان، وأفغانستان كلها غارقة إما في حروب داخلية أو قلاقل عميقة بلا نهاية تلوح في الأفق.‏

إن الصراع الإقليمي بين النمور الورقية القائمة على ثروة هائلة باستخدام الوقود الأحفوري، والمملكة العربية السعودية وإيران – الذي صورته النخب المحاصرة من كلا الجانبين على أنه صراع طائفي بين الشيعة والسنة بحثًا عن ملهيات تحجب أوجه القصور لديهم – يمكن أن يقذف المنطقة بكاملها إلى حرب إقليمية شنيعة والتي بدورها قد تجر بسهولة بقية العالم إلى هذه الحرب. في الواقع فإن أكبر العقبات في طريق الوحدة والتعاون هي أيضًا الأسباب نفسها التي يجب أن تكون الدافع لتحقيقها.‏

ثيوقراطية مطلقة أم اتحاد إسلامي متسامح؟

لكي يكون أي دفاع عن الخلافة ذا قيمة، يجب أولا الإقرار بالقصور المتكرر للفكر السياسي الإسلامي وممارساته في الماضي، وفصله عن الرؤية الحقيقية والممكنة لاتحاد سياسي مسلم في العالم الحديث. لا يمكن لمثل هذه الرؤية أن تنفصل عن دراسة التاريخ، ولا أن تكون طوباوية، ولا مجرد تلخيص لأطروحة أو مؤسسة من العصور الوسطى أو غيرها. علاوة على ذلك، يجب أن يضمن مثل هذا الاتحاد استيعابًا هادفًا وقويًا للاختلافات المحلية للترتيبات السياسية، والثقافات، والمذاهب الدينية بين المسلمين وحقوق الأقليات غير المسلمة. إن مهمة تحديد مثل هذه الرؤية وتخيلها لا تتطلب مقالًا، بل تتطلب جيلًا من الفقهاء وعلماء الدين والمنظرين السياسيين ورجال الأعمال والقادة أصحاب الرؤية يقومون ببحث هذا الأمر للوصول إلى اتفاق ما حولها. ما أقدمه هنا هو تفسير متواضع ومحاولة تحديد لبعض معالم هذه الرؤية من خلال إعطاء بعض الخطوط العريضة، بدءًا بقليل من التاريخ.‏

نشر البروفيسور ديفيد واسرشتاين ذو التراث اليهودي وباحث في اليهودية والإسلام بجامعة فاندربيلت Vanderbilt University، مؤخرًا دراسة حول الجذور الأيديولوجية والدينية لداعش وخلافتها بعنوان: رايات داعش السوداءجذور الخلافة الجديدة.25 كما ألقى خطابًا عميقا يعكس نظرة صحيحة شاملة قبل بضع سنوات، قال فيه إن إسلام العصور الوسطى -إسلام الخلافة القديمة- هو الذي أنقذ اليهودية من الانقراض.‏

لقد أنقذ الإسلام اليهودهذا ادعاء غير مريح ولا يحظى بشعبية في العالم الحديثلكنها حقيقة تاريخيةالحجة لذلك لها جانبانأولاً، في عام 570 م، عندما ولد النبي محمد ﷺ، كان اليهود واليهودية في طريقهم إلى النسيانوثانيًا، فإن مجيء الإسلام أنقذهم، ووفر لهم سياقًا جديدًا لم يبقوا فيه على حياتهم فحسب، بل ازدهروا، وأرسى الأسس للازدهار الثقافي اليهودي اللاحق – أيضًا في العالم المسيحي – خلال فترة القرون الوسطى إلى العالم الحديث. . . . لو لم يأتِ الإسلام، لكان يهود الغرب قد ضعفوا إلى حد الاختفاء وأصبح يهود الشرق مجرد طائفة شرقية أخرى“.26

ليس من الواضح ما إذا كانت المفارقة واضحة للأستاذ الجامعي. ذلك أنه كانت الخلافة التاريخية شرطا مسبقا لوجود الحضارة الإسلامية، وهو الشرط الذي أنتج الفقه والقانون، وعلم الأديان، والرؤية الدينية التي وعلى الرغم من عدم كمالها (تذكر هنا الخط المقارب!)، فإنها قامت بحماية المجتمعات المسيحية واليهودية النابضة بالحياة واستضافت النهضة العلمية والفلسفية الهيلينية (اليونانية القديمة). قبل أن نتجاهل هذه الحقيقة بتسرع “كفى مع هذا الحنين!” و “لا يمكنك إعادة عجلات الزمن إلى الوراء”، من المهم أن نبقى مع المقارنة بين مثالي واسرشتاين لفترة أطول قليلاً. لو لم تكن الخلافة موجودة ولم تتولى حكمًا موحدًا امتد لقرون على الأراضي النائية التي تميزت بالسلام النسبي والاستقرار والتبادل الثقافي والتجاري، ولو كانت وحدة الأراضي التي حكمتها انتهت بالسرعة التي حصل عليها النبي ﷺ بعد أن نجح في الحصول عليها، لكان البديل هو عصر مظلم لممالك صغيرة أو الأسوأ من ذلك، لكان الثأر القبلي الذي يترأسه أمثال الخوارج (نظير مناسب لداعش اليوم). لم يكن الأمويون ولا العباسيون ولا العثمانيون خلفاءً كاملين – بعضهم كانوا طغاة بلا ريب – ولكن بشكل عام، فإنهم ومعهم النخبة الدينية والسياسية من المسلمين أقد دركوا القيمة القصوى لوحدة المجتمع وأولوية القانون والنظام. هذا هو المثال التوافقي الذي يعتز به المسلم المثقف الذي ننتقل إليه الآن.‏

الماضيالتاريخ والتقاليد المعيارية

كلمة “caliphate” هي الترجمة الإنجليزية للكلمة العربية (الخلافة). والكلمة جذرها الثلاثي (خ ل ف) والجذر يشير ضمنيًا إلى فكرة “الوجود أو الظهور بعد أو خلف شخص ما من حيث الترتيب أو الوقت أو المكان.” الخليفة، إذن، فعليًا هو شخص تركه سلفهُ خلفه للقيام بمسؤولية معينة. يتكلم القرآن عن آدم وبالإشارة إلى أن نسله أنه “خليفة” (2: 30). ولهذا اعتبر المفسرون الأوائل معناه “خليفةَ خليقةٍ سابقة كانت في يوم من الأيام تسود الأرض”. لكن حسب دعاء مشهور للنبي محمد ﷺ في صحيح مسلم، فإن الله أيضًا هو خليفة المسافر الذي يترك بيته وعائلته في رعايته سبحانه وتعالى.27 يشير هذا الاستخدام إلى أن الترجمة الحديثة لـ “خليفة” كـ “نائب” أو “بديل” غير دقيقة، كما هو الحال مع الفكرة الشائعة في القرن العشرين أن البشر هم “خلفاء الله” الميتافيزيقيين. وهناك أيضًا إشارة أخرى في القرآن إلى النبي داود عليه السلام، على أنه “خليفة في الأرض” والتي تعني ببساطة “وريث الأرض”، ولكنها كذلك استخدمت لتنسب للكلمة معنى السلطة السياسية واستخلاف الله البشر لعمارة الأرض. المعنى الميتافيزيقي (العلاقة بالخالق) له ما يبرره من ناحية المفهوم من خلال مفهومي القرآن للتسخير والتكريم (أن الله قد كرم البشر وأخضع كل الخليقة لهم، 17:70، 14: 32-33، إلخ)، لكن لغويًا ليس له علاقة بالضرورة بمصطلح (الخليفة) المطروح. هذه ليست مجرد اعتراضات لغوية فأنواع كاملة من الأدبيات كتبت من قبل مؤلفين مسلمين ومستشرقين بناء على سوء الفهم هذا.28 وفي حالات معينة، استُخدم سوء الفهم هذا لينسب للقرآن الفكرة الحديثة للسيادة الشعبية في الدولة القطرية.29

لكن ما يهمنا هنا هو الاستخدام التاريخي لمصطلح الخلافة للدلالة على الحاكم السياسي الأعلى للمسلمين. ذلك أنه بهذا المعنى، أصبحت الخلافة تعني نيابة النبي محمد ﷺ في قيادة وحكم مجتمعه بعد وفاته. كما أطلق علماء الدين السنة والشيعة على هذا القائد السياسي الأعلى للمسلمين اسم الإمام – على الرغم من أن الشيعة احتفظوا بمصطلح الإمام لقائدهم الديني وليس بالضرورة السياسي. في وقت سابق، وعلى وجه التحديد لأن مصطلح خليفة لم يكن له معنى سياسي واضح وكان مجرد وصف لدور أبو بكر كخليفة للنبي ﷺ، استعمل الوصف الأكثر وضوحًا (أمير المؤمنين) لوصف الحاكم منذ عهد الخليفة الثاني عمر. وبمرور الوقت، عندما أصبح المجال السياسي مليئا بأنواع مختلفة من القادة مثل أمير (قائد عسكري)، وسلطان (سلطة، ملك) وملك، استقر الاستخدام التاريخي والسياسي على مصطلح خليفة للإشارة إلى الفرد، القائد الأعلى لجميع المسلمين.‏

النماذج التاريخية الخمسة للخلافة

يتألف النموذج المعياري الأول والوحيد للخلافة بالنسبة للأغلبية السنية من الخلفاء الأربعة الأوائل للنبي، والذين أصبحوا فيما بعد يُطلق عليهم الخلفاء الراشدون. في البداية، لم تكن السلطات الدينية والسياسية متمايزة بشكل منهجي، وكان الخليفة، وهو من يخلف النبي ﷺ يجسد كليهما. بعد أقل من قرن من الزمان، ظهر نموذج آخر حيث أصبحت فيه الخلافة منصبًا سياسيًا بالدرجة الأولى، وأصبحت السلطة الدينية تدريجيًا مشتركة بين الخليفة والعلماء. لقد أصبح العلماء، وهم الطبقة الناشئة من العلماء المتفانين، على نحو متزايد يعملون كقادة اجتماعيين ودينيين حقيقيين للمجتمعات الإسلامية الحضرية والمدارس الفكرية. لم تكن سلطات الخليفة مطلقة من الناحية العملية، لكن العلماء بدأوا في تنظير هذه الحدود والوظائف بدءًا من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.‏

لقد حكم الخلفاء الأوائل أكبر إمبراطورية في العالم من المدينة المنورة الصغيرة كأول إمبراطورية بين مواطنين متساوين (primus inter pares). أثبت هذا النموذج القائم على المساواة، وإمكانية الوصول المباشر للخليفة، والقائم على التقوى، أنه غير قابل للتطوير لتلبية احتياجات إدارة إمبراطورية شاسعة بعيدة. وهكذا أفسح المجال للخلافة الإمبراطورية في أواخر العصور الأموية والعباسية العليا. خلال القرنين الثاني / الثامن والثالث / التاسع، كانت الخلافة العباسية – وعاصمتها بغداد- في أوجها وكانت أغنى وأكبر إمبراطورية شهدها العالم من حيث معدل نصيب الفرد من الثروة.30 كما تبنت رمزية الإمبراطورية الساسانية قبل الإسلام التي كان على الإمبراطور الجدير، من أجل تحقيق العدالة الكاملة، أن يبرز حوله هالة مطلقة من القوة وكأنه لا يسأل عما يفعل. ولكن في الواقع، كانت سلطات الخليفة الفعلية، وفي الشريعة الإسلامية، محدودة نوعًا ما، وفي بعض الحالات كان هذا واضحا بشكل كبير. كان هذا هو النموذج الثاني للخلافة.‏

ومع تضاؤل القوة الفعلية للخلفاء البغداديين، ظهر نموذج ثالث كان فيه الخليفة في المقام الأول سلطة رمزية وروحية. كان الحكام الفعليون لمختلف الولايات في الغالب حكامًا محليين أو قادة عسكريين غزاة والذين كانوا يفتقرون إلى الشرعية المتأصلة، كانوا يدينون بالولاء رسميا للخليفة. استمر هذا العصر لمدة خمسة قرون. في هذا العصر الكلاسيكي تبلورت الشريعة الإسلامية وعلم الكلام والفكر السياسي. كانت القوة الرمزية للخليفة لا غنى عنها، وإمكانية استعادة السلطة الفعلية لم تكن بعيدة المنال. لقد مات البطل الإسلامي الشهير صلاح الدين الذي استعاد القدس من الصليبيين وربح القلوب بإظهار شهامة عظيمة في القرن الثاني عشر، وهو يسعى إلى الحصول على موافقة الخليفة في بغداد دون أن يحصل عليها؛ وقد كانت موافقة الخليفة مهمة كي تكون سلطة الحاكم شرعية، مهما كانت إنجازاته.‏

أصبح واضحًا بشكل متزايد للمسلمين أن الخليفة يمثل تواصلا واستمرارا لناحيتين مهمتين للأمة الإسلامية: الأولى: الارتباط الرمزي بالرسول ﷺ والخلفاء الراشدين الذين ظل حكمهم هو المعيار الذهبي، والثانية: التواصل المكاني (أو الوحدة) لجميع المسلمين الذين عاشوا الآن في مجتمعات متشابكة تمتد عبر أجزاء من إفريقيا وآسيا وأوروبا ويحكمها العديد من الملوك والحكام المحليين. لقد جعلت هاتان الاستمراريتان التشرذم السياسي، والطائفية الدينية، والمنافسات الثقافية أمرًا يمكن السيطرة عليه، مما أدى إلى تجنب أسوأ الجنوحات الإستقلالية، كما منعت انهيار المنطقة في حرب مستمرة ووحشية. كانت هذه المجتمعات إلى حد كبير تحكمها شريعة الإسلام التي يديرها الحكام والعلماء المحليون. حكم الملوك أو السلاطين كخدم للرعية أو، بشكل أكثر عظمة، كسلطة تنفيذية، فكان وجودهم مهما للدفاع والحفاظ على القانون ولكن مع ذلك كان يمكن التخلص منهم. لقد جاؤوا وذهبوا دون تغيير أعراف أو قوانين أو مؤسسات هذا المجتمع الضخم. هذا النموذج الثالث يسمى “الدستورية الإسلامية الكلاسيكية“.31 هذا مهم لأنه، باستثناء أول قرنين من الزمن، كان هذاهو الشكل الذي بدت عليه الخلافة في الواقع عبر معظم التاريخ الإسلامي.‏

لا شك أن الأمور كانت بعيدة عن الكمال، وكان العلماء الأكثر نفوذاً الذين بحثوا في الشؤون السياسية، ابتداءً بالماوردي (ت 450/1058)، إلى الجويني (ت 478/1085)، فالغزالي (ت 505/1111)، إلى ابن تيمية (ت 728/1328)، كانوا قد اعتبروا أن الخسارة الفعلية لسلطة الخليفة للمغتصبين العسكريين غير مقبولة، على الرغم من أنهم اعتبروها مقبولة في وضع إستثنائي. وشبّه الغزالي قبول السلاطين السلاجقة في عصره، الذين قبلوا اسميًا فقط السلطة العليا للخليفة العباسي، لكنهم في الواقع استهزأوا بسلطته، بأكل الميتة: مسموح به فقط للحفاظ على الحياة الانسانية في حالة عدم وجود طعام مباح. وقد وافق علماء آخرون على هذه النظرة، ولا سيما ابن تيمية، كما سنرى أدناه. خلال النصف الأول من هذا النموذج قبل هجوم المغول عام 656/1258، كانت القوة الرمزية للخليفة المتمركزة في بغداد مهمة، ولكن حتى بعد ذلك في الفترة المملوكية، عندما فقد الخليفة العباسي، الموجود الآن في القاهرة، كل سلطته في البلاد الإسلامية البعيدة مثل دلهي وتمبكتو، كان خطاب تنصيبه حاسمًا في تمييز الفرق بين مجرد اغتصاب السلطة والشرعية والانتماء إلى جسد الأمة السياسي.‏

ظهر النموذج الرابع للخلافة، الذي كان مزيجًا من الثاني والثالث، في البداية عندما وحد العثمانيون سياسيًا أوروبا الشرقية وغرب آسيا وشمال إفريقيا تحت إمبراطورية واحدة استمرت لنحو أربعمائة عام كواحدة من أكثر الإمبراطوريات نجاحًا واستقرارًا وقوة في ذلك الوقت. لقد طبق السلاطين العثمانيون (الذين أخذوا لقب “الخليفة” بعد هزيمة المماليك في القاهرة) أحكام الشريعة كما شرحه العلماء وأداروه كمفتين وقضاة. وبالتالي، كانت سلطات الخليفة أو السلطان محدودة. إذ أن لدينا قضايا تري السلاطين الذين تم عزلهم بسبب حكم من رئيس القضاة. ومع ذلك، يمكن للسلاطين أن يكتسبوا السلطة ويتصرفوا باستبداد أيضًا، مستهزئين بالمعايير الإسلامية في الأمور التي تمس مصالحهم الهامة. على عكس العثمانيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمغول في الهند، الذين حكموا أغلبية هندوسية، بنى منافسوهم الشيعة الصفويون شرعيتهم على مزاعم ثيوقراطية قوية. كان انتساب العثمانيين للخلافة يتخيل في بعض الأحيان بطرق صوفية حيث ساعدت الصوفية الأناضولية في تخيل الخليفة العثماني كحاكم، ومرشد روحي، ومشروع لجميع المسلمين، على الرغم من عدم بذل أي جهد سياسي – وربما كان من الصعب جدًا- لضم الإمبراطوريات المسلمة الثلاث في نظام سياسي واحد.32

العامل المشترك المهم في النماذج الثلاثة الأخيرة للخلافة هو أن الخليفة لم يمارس سلطة دينية إلا في أمور عامة محدودة. بالنسبة للعثمانيين، يمكن أن يتخيل الصوفيون الخليفة على أنه ظل الله في الأرض، ويمكن استخدام الكشوفات في توقع التنبوءات وتبرير السياسات، لكن المؤسسة الفقهية الحنفية، العمود الفقري للإمبراطورية، ضمنت بقاء مثل هذه الادعاءات داخل المحافل الصوفية. لقد اعترف برنارد لويس، عميد الدراسات الاستشراقية الصقوري الشهير، بهذا الأمر: لم يكن هناك ولا يمكن أن يكون ثيوقراطية في الإسلام (السني). هذا بفضل التعددية المعرفية المتأصلة في الفقه السني وعدم وجود أي مؤسسة مثل الكنيسة في العصور الوسطى للتحدث باسم الله. كان تعدد الأصوات في تفسير النصوص الشرعية يعني شيئين: أن السلطة الدينية كانت منقسمة ومتعددة الأصوات وأن النخبة الحاكمة لا يمكنها أبدًا السيطرة على السلطة الدينية، ونتيجة لذلك، ظهر نظام للضوابط والتوازنات الاجتماعية والدينية بشكل طبيعي.‏

النموذجان الثالث والرابع للخلافة، اللذان داما ما مجموعه ألف سنة، لم يكونا، باختصار، نموذجًا ثيوقراطيًا ولا مطلقًا. لقد ضمن النموذجان قدراً كبيراً من الحرية للمجموعات الدينية الواقعة تحت حكمهم مما مكن للمسلمين من مختلف الإتجاهات، واليهود والمسيحيين وغيرهم أن يعيشوا مجموعات حرة نسبياً. على الرغم من أن هذا النظام بعيد عن الكمال، إلا أنه عمل بشكل أكثر فاعلية في تسهيل حياة عادلة تتمحور حول الحكم الشرعي، مقارنة بالدول الإسلامية الحديثة وحتى العديد من الديمقراطيات. وعلى عكس النموذج الليبرالي الحديث، فقد اعتُبرت التجمعات وبالتالي المعايير المجتمعية ضرورية لأي وجود بشري لائق، ولهذا السبب حتى غير المسلمين كانوا أحرارًا في العيش وفقًا للمعايير الدينية التي يؤمنون بها. غالبًا ما تميل إبرة التوازن بين الحقوق الفردية والجماعية في الاتجاه الأخير. ولقد كان العثمانيون، مثل الرومان في مواجهة الإغريق، إداريين وبناة مؤسسات، وحولوا النموذج القرآني للمجموعات الأخرى المحمية، (الذميون)، إلى مؤسسة متعددة الطوائف الدينية التي يمثلها قادتهم في العاصمة. وقد أصبح هذا معروفًا باسم النظام الملّي.33

عندما واجهت الدول القومية الحديثة في القرن التاسع عشر العثمانيين، حيث أنه لأول مرة أصبحت هذه الدول على قدم المساواة وتجاوزت القوة الاقتصادية والعسكرية العثمانية بسرعة، قام العثمانيون بالتكيف وخطوا خطوات كبيرة في نهاية المطاف في تحديث جيشهم واقتصادهم ومجتمعهم – في ذلك النظام – في وقت قصير نسبيًا. لقد تم استبدال القيود الاجتماعية والمجتمعية القديمة التراكمية على سلطة السلطان بدستور، لكن العثمانيين لم ينجوا من أثر الحرب العالمية الأولى. لقد ذهب المؤرخون المعاصرون إلى أن الفكرة القديمة التي صورت النظام المتداعي لا يمكن أن يعيش طويلاً، أي أن فكرة الإمبراطورية العثمانية على أنها “رجل أوروبا المريض”، كانت غير صحيحة. في الواقع، كان من الممكن أن ينجو العثمانيون من هذه الحرب لو راهنوا على جانب مختلف في الحرب أو نجوا بطريقة ما. قد نطلق على هذه الخلافة الدستورية قصيرة العمر النموذج الخامس المحتمل للخلافة.‏

نظرية الخلافة

في محاولة لفصل حقيقة الخلافة عن مظاهرها المختلفة، نجد أن التراث السني قد وضع نظرية للخلافة بدقة، ووضع أساس وجوبها ووظائفها وطبيعتها وحدودها، والاستجابة لتحولاتها مع محاولة الإبقاء على نموذج الخلافة الراشدة. كانت هذه عملية معقدة. كل خلاف يمكن تصوره كان قائمًا، وبنى الفقهاء البارزون براهينهم وأدلتهم وأعادوا التفكير باستمرار في بنيان دقيق من البراهين والمبررات. ومما لا يثير الدهشة أن التنظير الدقيق للمؤسسة قد حدث أولاً على يد علماء السنة في القرن الخامس / الحادي عشر بالتحديد عندما كان وجود مؤسسة الخلافة مهددًا. إن الضرورة المطلقة للخلافة لاستمرار وحدة ووجود المجتمع الديني خلال القرنين الأولين جعلت الدفاع المكثف عن الفكرة يبدو وكأنه غير ضروري. وعلى الرغم من هذا، فإننا وجدنا واحدة من أقدم الرسائل المحفوظة في الإسلام، وهي رسالة عبد الحميد الكاتب، كاتب الرسائل الأول للخليفة الأموي (ت. 132/750) التي اهتمت بالتنظير والدفاع عن الخلافة كمؤسسة مفروضة من الله والتي من خلالها تستمر الرسالة النبوية.34

لقد اتفقت جميع المدارس والطوائف الإسلامية الباقية على وجوب تعيين رئيس واحد للأمة الإسلامية. واتفق السنة والشيعة على هذه النقطة لكن اختلفت مفاهيمهم عن المنصب. أدرج الشيعة الإمامية الإيمان بالإمام – وهو سليل مختار من نسل علي- في تعريف الإيمان ذاته، وواجب على الله (من باب اللطف، أو النعمة الإلهية)، مما يعني أن العلم والإيمان بإمام واحد شرعي (حتى لو لم يكن في السلطة أو موجودًا بالفعل) يكون واجبًا على جميع البشر.35 كان الشيعة الزيدية يؤمنون بالحق في حكم سليل من عائلة علي، لكن يجب على الشخص أن يثبت تأهله للمنصب من خلال التمرد بنجاح ضد الحكم الظالم ثم الإمساك بزمام القيادة. ولكن بالمقابل، اعتبر أهل السنة أن إقامة الخلافة واجب جماعي. الفرق دقيق: بالنسبة للشيعة، فإن عدم الإيمان بالإمام الصحيح هو هرطقة وقد يبطل إيمان المرء، أما أهل السنة، فإن عدم تنصيب الإمام الشرعي أو التقاعس عن ذلك إثم. في المقابل، تؤمن الإباضية – وهم الطائفة المعتدلة من الخوارج، والوحيدة التي لم تندثر بعد فترة التكوين – بوجوب تنصيب الإمام / الخليفة العادل، ولكن على عكس الشيعة ومعظم أهل السنة، ومثل معظم السنة ما بعد العثمانيين، فإنهم لا يشترطون أن يكون المرشح من قريش أو من أي نسب معين.36

وقد اختلفت الآراء حول إمكانية الحياة الإسلامية بدون خليفة. فقد ذهب البعض، مثل الغزالي، إلى حد إنكار شرعية الحياة الإسلامية في ظل هذه الظروف. وقد اعتبر آخرون، مثل أستاذ الغزالي وكبير علماء الأشعرية والفقيه الشافعي في عصره أبي المعالي الجويني، مثل هذا السيناريو في أطروحته الرائعة والخلاقة غياث الأمم في التياث الظلم.37 هناك يتخيل مستقبلًا بائسًا قد لا يكون فيه للمسلمين خليفة بالمؤهلات المناسبة، أو لا يوجد خليفة على الإطلاق، تاركًا العلماء لقيادة المجتمع، وأخيرًا، تصور غياب العلماء المؤهلين ولتقديم ما يلزم من التعليمات حول ما يمكن أن يفعله المسلمون في مثل هذه الحالات. ومن اللازم ذكره أن الجويني كان غير راضٍ عن الاستشهاد ببعض الآيات الظنية الدلالة وأحاديث الآحاد على وجوب الخلافة. فهو يصر على أنه بما أن الواجب القطعي للخلافة يتطلب إثباتًا قطعيًا لها، فإنه يجب أن يتم هذا على أساس إجماع الصحابة، وهم أعلى سلطة يمكن تخيلها في الواجبات الشرعية.38 يقول الجويني بأنه مبرر حجية إحماعهم إذا وجد عدد كبير من العقلاء فلن يستطيعوا الاتفاق على جواب واحد لسؤال يقبل إجابات عقلانية متعددة ما لم يكن هناك سبب قوي دفعهم لهذا الإتفاق. وهذا السبب متصور في حالة الصحابة حيث أنهم اتفقوا على وجوب الخلافة، لذلك لا بد من أن يكون فهمهم المشترك لتعاليم القرآن والسنة النبوية هو السبب وراء اتفاقهم. وبالتالي، فإن الإجماع لم يكن عرضيًا ولا وُجد لمجرد الضرورة. كما يظهر الخلاف الأولي بين الأنصار في المدينة عند اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، فقد تم التوصل إليه بعد الكثير من المداولات كما رأى أبو بكر وعمر بوضوح، واتفق الجميع في وقت لاحق على أن الحاجة للخليفة أوجدتها الواجبات الإسلامية بلا شك.‏

في فترة ما بعد المغول (القرن السابع / القرن الثالث عشر وما بعده)، أدى الاتجاه السابق لتبرير اغتصاب الرجال الأقوياء للسلطة بشكل عملي في ظروف ملحة، وانعدام الأمن، إلى تبرير أي مغتصب يمكنه الدفاع عن المجتمع أو جزء منه. لقد أكد الكتاب الأصليون (الذين كتبوا بأصالة لا بتقليد لغيرهم) في هذه الفترة، بمن فيهم ابن خلدون وابن تيمية، على وجوب الخلافة ولكنهم أيضًا شقوا أرضية جديدة في التفكير السياسي. لقد وضع ابن خلدون نظرية للأسس الاجتماعية والمادية والنفسية للسلطة السياسية، مما أدى إلى نشوء نظرية في التاريخ والسياسة قبل عدة قرون من معرفة مثل هذا التفكير في العصر الحديث. من ناحية أخرى، فقد أدرك ابن تيمية، دون التشكيك في فرضية الخلافة، عدم وجود أي كفاءة لخلافة ما بعد المغول وسعى لاستعادة الحيوية المجتمعية والنموذج السياسي الصاعد الذي أصبح فيه تطبيق الشريعة هو البعد المركزي لشرعية الحاكم. قبل تدمير المغول لبغداد، كان يُنظر إلى الخلافة على أنها خلقت العالم الذي يمكن فيه صياغة الشريعة وتطويرها. لقد كانت هذه الحقيقة، إلى جانب ادعاء الخلافة بصلتها بالنبي ﷺ، أقوى من أي تبرير نصي معين: كانت الخلافة أكبر من الشريعة. وما قدم العلماء، مثل الماوردي والغزالي، دليلاً على وجوب الخلافة إلا عندما شعروا أنها مهددة. الآن، في عالم ما بعد المغول، كانت الشريعة هي التي وفرت الدافع لإنشاء حكومات إسلامية في كل مكان حتى يمكن استعادة الخلافة الصحيحة. لقد قدم ابن تيمية الحجج الأولى فقط لمثل هذه السياسات الإسلامية. أدرك العلماء من جميع المدارس لاحقًا – وخاصة في الفكر السياسي العثماني – هذا التطور الطبيعي “لسياسات الشريعة“.39

لإعطاء مضمون وملمس للإدعاءات المطروحة للتو، دعونا نأخذ عينات من أنواع الادعاءات والمبررات الخاصة بالخلافة التي قدمها علماء من مجموعة واسعة من المدارس. هنا ينبغي علينا أن لاحظ العالم الظاهري الموسوعي ابن حزم (ت ٤٥٦/١٠٦٤)، الذي كتب في الأندلس ومن ثم خارج الأراضي التقليدية للخلافة العباسية:

اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قال وا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم“.40

إشارة ابن حزم هنا هي إلى حفنة من الراديكاليين أثناء الفتنة (60-70 هـ)، عندما كان الخوارج يشككون في واجب الخلافة في الأيام القوية للانقسامات المبكرة. هنا من اللازم أن نذكر أن بعض المعتزلة أيضا لم يقولوا بوجوب الخلافة. ولكن في ذلك الوقت، حتى الأصول الأساسية مثل مرجعية الحديث الشريف، وصحة القياس، ومدى صلاحية الخلفاء الراشدين الأخيرين، وحتى حرمة حياة المسلم، كانت قابلة للبحث عند هذه الجماعات. جادل أحد هؤلاء المفكرين غير المنضبطين بأي قيد للبحث، بطريقة تكاد تكون مناقضة للحقائق: إذا قام جميع المؤمنين بالإلتزام بحكم الله، فلن تكون هناك حاجة إلى حكومة. لاحظ أنه لم يقترح حكومة علمانية كبديل، لكنه أنكر الحاجة إلى نظام سياسي تمامًا. جادل آخر، بشكل شبه واقعي، أن حالة عدم الإمام هذه تنطبق فقط في أوقات الفتنة، وعدم الولاء أي إمام كان ضروريًا خلال الفتنة. 41 بالرغم من هذين الرأيين، وبشكل إجمالي، كانت ضرورة وجود خليفة مسألة متفق عليها بالإجماع وخالية من الإختلافات الكثيرة التي شهدتها بعض الآراء التي دعا إليها العديد من المذاهب الأخرى التي تعتبر أساسية الآن.‏

ذكر أبو حفص النسفي (ت 573 للهجرة / 1142م) في العقائد النسفية وهي المرجع الرئيس للماتريدية الحنفية “يجب على المسلمين تنصيب إمام ليقيم أحكامهم، ويطبق الحدود، ويحمي الثغور…”. وتعليقًا على ذلك، كتب العالم الموسوعي والأشعري التفتازاني (ت 792 للهجرة/ 1390 م) ما يلي:

“الإجماع على أن نصب الإمام واجب وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله تعالى أو على الخلق بدليل سمعي أو عقلي. والمذهب أنه يجب على الخلق سمعاً، لقوله عليه السلام: [1] ولأن الأمة قد جعلوا أهم المهمات بعد وفاة النبي عليه السلام نصب الإمام حتى قدموه على الدفن، وكذا بعد موت كل إمام، ولأن كثيراً من الواجبات الشرعية يتوقف عليه.”‏

وتعليقًا على الوضع في أيامه عندما كانت الأراضي الوسطى للإسلام، سوريا ومصر، تحت حكم المماليك (بلاد فارس وما وراء النهر) بينما دمر تيمورلانك شرقها، أوضح التفتازاني سبب وجوب وجود إمام واحد فقط لكل البلاد:

“فإن قيللماذا لا يكفي تعيين حاكم في كل منطقة، أو ما هو وجوب تعيين واحد يكون صاحب الرياسة العامة؟ ” نقوللأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى الصراع والعداوة، والتي من شأنها أن تؤدي إلى إفساد شئون الدين والدنيا كما نشهد في زماننا“.42

وفي نفس الوقت تقريبًا، كتب المؤرخ الكبير والفقيه المالكي ابن خلدون (ت808 للهجرة/ 1406 م) في الأجزاء الغربية من العالم الإسلامي ملخصا ومبينا الإجماع على هذا بإيجاز:‏

” ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهموكذا في كل عصرمن بعد ذلكولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصارواستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام.”43

ثم يذهب ابن خلدون إلى القول، وفقًا لمذهبه الأشعري، أن وجوب إقامة الخلافة (مثل جميع الفروض الأخرى) ينبع من الوحى وليس العقل وبالتالي لا يمكن إبطاله بالعقل.‏

مجرد القول بأن ابن خلدون أيد الخلافة لا يفي موقفه حقه، فقد كتب تحفته (المقدمة وكتابه في التاريخ) لشرح تاريخها والدعوة إلى عودتها. لقد ذكر الباحث الغربي المبرز في الحضارة الإسلامية، هاملتون جيب، بأن الخلافة احتلت موقعًا مركزيًا في فكر ابن خلدون. يمكن الاستدلال على ذلك من الطريقة التي نظم بها فصول كتابه منطقيًا لتتوج بالخلافة، حيث يناقش بعد ذلك بالتفصيل التنظيم المرتبط بها قبل الانتقال إلى تحليل أسباب اضمحلال الدولة وتدميرها النهائي. وكان ابن خلدون بالإضافة إلى تحليل تطور السلطة السياسية والتضامن الجماعي، مثل غيره من الفقهاء المسلمين في عصره. فقد كان مهتمًا بمشكلة التوفيق بين المطالب المثالية للشريعة والحقائق التاريخية.44 أما بالنسبة للآخرين، بما في ذلك المعتزلة، الشيعة، والتقليديين مثل ابن تيمية، فإنهم ناقشوا قضية وجوب الخلافة، مثل جميع الواجبات الأخرى، ذاكرين أنها معروفة بالوحي والعقل.45

لقد قدم العلماء أسبابًا عديدة، و حججا عقلية، للاستدلال على الحاجة لوجود حكومة. بالنسبة للبعض، فإن هذه الوظائف هي في الوقت نفسه سبب أو جزء من سبب فرضية وجودها، ولكن بالنسبة لآخرين، فإن سبب وجوبها هو فوائدها، لكن يجب أن نعلم أن الوجوب نفسه قائم بذاته ومستقل عن أي فوائد. بالنسبة للذين ركزوا على الضرورة التقليدية المطلقة للخلافة من أجل صلاح الحياة الإسلامية، مثل الماوردي، بل وأكثر مثل الغزالي، كان من الواجب تنصيب الخليفة حتى لو لم يمتلك قوة فعالة (شوكة ومنعة) وكان على الخلافة بالتالي في مثل هذه الحالة، الاعتماد على آخرين (مثل السلاطين) لدعم وظائفها الأساسية. أما بالنسبة لآخرين، مثل الجويني وابن تيمية، فإن القوة الفعالة لإقامة الحدود والحفاظ على النظام، والدفاع عن المجتمع ودينه هو عنصر ضروري في ماهية الخليفة.‏

استمر العلماء في إعادة إنتاج هذا النهج في التفكير بأمانة حتى اليوم. يشير فقيه دمشقي من القرن الحادي عشر / السابع عشر في ملخّصه المرجعي في الفقه الحنفي:‏

“فالإمامة الكبرى (الخلافة) استحقاق تصرف عام على الأنام. وتحقيقه في علم الكلام، ونصبه أهم الواجبات، فلذا قدموه على دفن صاحب المعجزات.46

لماذا كانت الخلافة قضية مركزية في العقيدة الإسلامية؟ بشكل رئيسي، لأنها كانت المشكلة الأساسية للإسلام – كما كان الثالوث بالنسبة للمسيحية. كان تنظير القيادة الشرعية للمجتمع أمرًا محوريًا في تحديد الإيمان منذ أن دعت الطوائف المنشقة المبكرة إلى التشكيك في استقامة المجتمع السائد ولياقته كحامل ومجسد لرسالة الله. لذلك، كان تبرير وجود الجماعة الذي حافظ على القرآن والسنة النبوية هو “القضية المشتركة” المركزية التي تشكل ضمنها الكثير من الفكر الإسلامي خلال القرنين الأولين للإسلام.47

وقد ترسخ القرار الأول من قرارات الصحابة بالإجماع بإعلان الوحدة السياسية للمسلمين ووضعها على رأس أولوياتهم، والذي انعكس في انتخاب أبي بكر، وبالتالي كان إجماعهم على شن الحرب على من انفصلوا عن سلطة المدينة. لذلك فإنهم لم يكتفوا بالتعبير عن آراء مجردة حول هذه المسألة بل حملوا السلاح على أساسها. وبذلك، فإنهم اتبعوا سلوك النبي ﷺ تجاه أولئك الذين هجروا الجماعة أو حاولوا تقسيمها.48 وقد تم تأكيد هذا الإجماع الأولي من الصحابة مرارًا وتكرارًا. ويظهر التأكيد التالي الواضح للإجماع عندما قاتل علي (المتمركز في العراق) ضد معاوية (المتمركز في الشام) في صفين؛ لم يفكر علي قط في فكرة المساومة في موضوع الخلاف وتقسيم المجتمع المسلم إلى نصفين لتجنب إراقة الدماء التي اتضح أنها كانت ضخمة. وبالمثل، كان عبد الله بن الزبير في مكة عندما واجه الأمويين في سوريا، لم يكن تقسيم السلطة من أجل السلام أمرًا معتبرًا عنده. وكذلك عندما رفض ابن عمر وغيره من قادة المجتمع إعطاء البيعة لابن الزبير، كانوا قد فعلوا ذلك تحديدًا على هذا الأساس: لم يتحد المجتمع تحت قيادته بعد.49

إن أفضل ما يمكن استخلاصه من وجهة نظر علماء السنة الكلاسيكيين إلى وظائف الخليفة هو عبارة منسوبة إلى الإمام علي. عندما نازع الراديكاليون في جيشه حقه كقائد بقبول التحكيم في المعركة ضد المتمردين من الشام، رد بالتأكيد على ضرورة وجود قائد بشري ليدير شؤون الأمة:‏

قال عليلَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا أَمِيرٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌقَالُوايَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْبَرُّ فَكَيْفَ بِالْفَاجِرِ؟ قَالَ: ” إِنَّ الْفَاجِرَ يُؤَمِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ السُّبُلَ، وَيُجَاهِدُ بِهِ الْعَدُوَّ، وَيَجْبِي بِهِ الْفَيْءَ، وَتُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ، وَيُحَجُّ بِهِ الْبَيْتُ، وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ الْمُسْلِمُ آمِنًا حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ.50

إذا كان وجود الحكومة بشكل عام ضرورة عقلًا، فقد كان يُنظر إلى الخلافة على أنها الشكل الإسلامي المناسب للحكومة. لفهم هذه الفكرة بشكل أفضل، سنقيسها على فكرة الزواج، أي اجتماع الذكور والإناث من أجل الرفقة والتكاثر: تستقر جميع الثقافات البشرية على شكل من أشكال هذه المؤسسة، وتضيف إليها قيودًا، واحتفالات، وطقوسًا، ودعوات بالبركة. لا يختلف الزواج الإسلامي عن هذا اختلافًا جوهريًا من حيث وظيفته الأساسية، ولكن العديد من أشكال التعايش السائدة في التقاليد الأخرى محظورة، وبعض القيود والطقوس والأعراف الشرعية المضافة إليه تجعل من الزواج شكلاً إسلاميًا مميزًا. وهكذا يبين ابن تيمية في “ السياسة الشرعية ”:‏

“أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِبَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضوَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍوَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِوَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ“.51

ما يميز الخلافة عن أي دولة أخرى هو، أولاً وقبل كل شيء، من الناحية الرسمية، المبدأ التأسيسي الذي بنيت عليه (مصدرها وحدودها وغاياتها ووظائفها).‏

قام الماوردي، كبير قضاة بغداد والشافعي الإمام في عصره، بتأليف العمل الكلاسيكي المرجعي (الأحكام السلطانية) حول الخلافة حيث أعطى المؤَلف وصفاً معياريًا للخليفة، فالخلافة موضوعة “لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنياّ“.52

وفي الواقع، تشير جميع التعريفات تقريبًا إلى هذه العناصر، وهي أن الخليفة:‏

(ا) يقوم مقام النبي ﷺ، غير أنه ليس نبيًا ولا معصومًا من الخطأ، ويجب أن يدين جميع المسلمين بالولاء.‏

(ب) يحكم في الشؤون الدينية والدنيوية للمجتمع النبوي، مما يعني بشكل فعلي أنه يحمي الدين، ويدافع عن الثغور، ويحافظ على الشرع والنظام، و (يعيد) توزيع الموارد.‏

بعبارة أخرى، يُعرَّف الخليفة بأنه رئيس جميع أتباع النبي محمد ﷺ، وليس في المقام الأول حاكم منطقة أو بلد أو طائفة أو مجموعة مختارة من المسلمين – على الرغم من أنه لا محالة يحكم ويدافع عن أراضي المسلمين.53

الخلافة ليست ملوكية

منذ العصور الأولى للمسلمين، ميز المسلمون بين الحكومة الإسلامية الصحيحة، والتي أطلقوا عليها اسم الخلافة، والسلطة السياسية بشكل عام، والتي أطلقوا عليها اسم الملك. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة ملك لها دلالات مزدوجة في اللغة العربية: يمكن أن تشير ببساطة إلى أي نوع من السلطة السياسية، وأحد أنواعها هو الخلافة الإسلامية. كما يمكن أن تشير الكلمة أيضًا، بشكل سلبي، إلى الملكية النمطية التي تتميز بالسلطة التعسفية التي يعامل فيها الحاكم محكوميه وثروته على أنها ملكه الشخصي. وقد لاحظنا سابقًا أن المسلمين الأوائل تجنبوا استخدام مصطلح (ملك) لحاكمهم لأنهم كرهوا عدم المساواة التي ينطوي عليها هذا المصطلح.54 روي البخاري من حديث الصحابي جرير بن عبد الله أن رجلا حكيما من اليمن قال له:‏

إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا كُنْتُمْ إِذَا هَلَكَ أَمِيرٌ تَأَمَّرْتُمْ فِي آخَرَ، فَإِذَا كَانَتْ بِالسَّيْفِ كَانُوا مُلُوكًا يَغْضَبُونَ غَضَبَ الْمُلُوكِ وَيَرْضَوْنَ رِضَا الْمُلُوكِ“.55

ولقد ظل هذا التمييز ساري المفعول طوال فترة العصور الوسطى. فمثلا العالم المالكي المقري التلمساني أجاب بشكل يظهر هذا المعنى عندما سأله بعض الصوفيين (الفقراء) عن سوء حظ المسلمين تجاه ملوكهم، الذين يتصرفون غالبًا بغير إنصاف وتقوى. فأجاب قائلًا:‏

وذلك لأن الملك ليس في شريعتنابل هو في شرع من قبلنا، كما ذكر الله فضله على بني إسرائيل. . . . لم يشرع لنا الله إلا الخلافة.56

ثم يواصل المقري تحديد الفرق بين الاثنين على أنه يتعلق بشكل أساسي فيما إذا كان المرء يعامل السلطة على أنها ملكٌ شخصيٌ يمررها إلى الأبناء بشكل سلالي. هذا يبين أن مما يميز الخلافة عن الملكية أن مصالح الأمة في الأول وهي في الصدارة والمركز وتمارس الخلافة السلطة على أنها أمانة.‏

كان ابن تيمية أكثر وضوحا حيث رأى أنه لا يتم القيام بالواجب إلا بالملك، حتى لو كان هناك ملك واحد عادل على جميع المسلمين، ولكن الواجب تنصيب خليفة، حاكم مسؤول يتولى السلطة كأمانة، على خطى النبي ﷺ والخلفاء الأوائل، وليس بشكل تعسفي.‏

“وَالْمُلْكُهَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْأَصْلِ وَالْخِلَافَةُ مُسْتَحَبَّةٌ؟ أَمْ لَيْسَ بِجَائِزِ إلَّا لِحَاجَةِ مِنْ نَقْصِ عِلْمٍ أَوْ نَقْصِ قُدْرَةٍ بِدُونِهِ؟ فَنَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزِ فِي الْأَصْلِ بَلْ الْوَاجِبُ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا؛ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌبَعْدَ قَوْلِهِ: {مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًافَهَذَا أَمْرٌ وَتَحْضِيضٌ عَلَى لُزُومِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْرٌ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهَا وَتَحْذِيرٌ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْهُ وَالنَّهْيُدَلِيلٌ بَيِّنٌ فِي الْوُجُوبِ……ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك….… إنه أمر منه، وبالتأكيد يجعل إقامة الخلافة واجبًا … ومرة أخرى، فإن حقيقة أن الرسول عبر عن كراهيته للملك الذي سيتبع الخلافة النبوية يثبت أن الملك ينقصه شيء إلزامي في الدين. …وَقَدْ يَحْتَجُّ مَنْ يُجَوِّزُ ” الْمُلْكَ ” بِالنُّصُوصِ الَّتِي مِنْهَا {قَوْلُهُ لِمُعَاوِيَةَإنْ مَلَكْت فَأَحْسِنْوَنَحْوَ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌا“.57 لكن لا توجد حجة (مقنعةفي هذا … الْخِلَافَةُ وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.58

الخسارة

ظلت الضرورة الدينية للخلافة من المسلمات وبلا شك فيها حتى القرن العشرين، عندما عبَّر القوميون الأتراك عن الحجج الداعية في نظرهم إلى إلغاء الخلافة العثمانية وجعل أمر إلغائها مستساغا، على الأقل للنخبة وذلك بعد قرن من الزمن من العلمنة وتقليد أوروبا. كانت اللحظة المصيرية في هذا التحول هي الخطاب الذي استمر سبع ساعات من قبل العالم الحداثي العثماني، سيد بيه، في الجمعية الوطنية التركية الكبرى (TGNA) في عام 1924، حيث قدم قضية شرعية الجمهورية التركية، للأسف، على أسس إسلامية.59 لم تكن حملة العلمنة العنيفة التي شنها الكماليون ونزع الصبغة الإسلامية بقوة للحياة الاجتماعية في العقود التالية جزءًا من خطة سيد بيه، لكنه لم يكن أول ولا آخر عالم يتم استخدامه كمرتزق فكري ثم يتم نبذه من قبل رجل قوي. يكفي القول أن ما فعله أتاتورك بعد ذلك، ألهم هتلر وموسوليني.60

وللأسف، جاء الدفاع الأكثر تأثيرًا عن إلغاء الخلافة والدفاع عما يمكن تسميته بالعلمانية السياسية في أعقاب هدم الخلافة عندما كتب العالم المصري الأزهري علي عبد الرازق (1888-1966) كتابه “الإسلام وأصول الحكم” وذلك في عام ١٩٢٥. وقال إن الإسلام دين خاص بالفرد وأن جميع الأعمال السياسية للنبي ﷺ وخلفائه (أي الخلفاء) كانت أمورا عرضية طارئة اقتضتها الحاجة ومنفصلة من الناحية المفاهيمية عن الإسلام كدين. كان عبد الرازق قد أمضى عامين في أكسفورد عندما انقطع تعليمه بسبب الحرب العالمية الأولى، ولعبت عائلته دورًا مؤسسيًا في الحزب الدستوري الليبرالي (حزب الأحرار الدستوريين، المنشق عن الوفد، والذي كان حزبًا علمانيًا قوميًا مناهضًا للاستعمار؛ وكان لحزب الأحرار أجندة أكثر علمانية لأنه دعا إلى محاكاة الدول الغربية). وكان علي عبد الرازق نفسه سياسيًا، وكان قد ترشح، دون نجاح، لمقعد في مجلس النواب في انتخابات 1923-1924 على قائمة المرشحين من الحزب.61

باختصار، لقد كتب بصفته سياسيًا ذا أجندة واضحة، وليس مجرد عالم، على الرغم من أن الأجيال القادمة أخطأت في فهم عمله باعتباره بدعة بطولية بعمق صوفي. لقد كان كتابه قراءة قسرية وغير تاريخية لكل من رسالة النبي ﷺ والخلفاء اللاحقين ويعطي فهمًا ضحلًا للحداثة. ولذلك أدانت المؤسسة الأزهرية الكتاب ونزعت الأزهرية عن مؤلفه رسميًا، وقام كبار علماء العالم الإسلامي بتأليف العديد من الردود التفصيلية.62 في الواقع، إن كتاب علي عبد الرازق المثير للجدل أدى في النهاية إلى تركيز انتباه كبار علماء القرن العشرين على مسألة الخلافة، حيث قدموا، دفاعًا عنها، المثال الأقرب في الفترة الحديثة لإجماع متجدد لقيادة إسلامية رائدة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن قوة تأثير الحجة لا تكمن في كثير من الأحيان في قوة الحجة نفسها نظريا بل في توقيتها. لم يكن من الممكن أن يطلب القوميون والعلمانيون العرب طريقة لتعزيز أجندتهم أفضل مما قدمه علي عبد الرازق.‏

هل أقام النبي دولة؟

استندت دعوى علي عبد الرازق على الحجة القائلة بأن رسالة النبي ﷺ كانت دينية وروحية وليست سياسية. واستدل على دعواه بأن القرآن والسنة لم يأمرا بالخلافة.63 لكن لا بد وأنه كان يعلم بأن مجرد عدم ذكر القرآن شيئا ما أو تسمية شيء ما هو، بالكاد يكون حجة لعدم وجوب أو عدم شرعية هذا الشيء أو الأمر. فمن المعلوم أن القرآن لا يذكر عدد الصلوات اليومية، ولا يحدد الحدود الجغرافية للمدينة التي ولد فيها نبي الإسلام ﷺ، ولا تلك التي دفن فيها، وما إلى ذلك؛ هذه لا تُعرف إلا من خلال نقل هذه المعرفة من خلال الصحابة والأجيال اللاحقة. لقد بيّن العلماء بشكل عام أن القرآن يذكر الواجب المباشر وغير المباشر على المجتمع المؤمن (والذي يطلق عليه القرآن اسم المؤمنين أو الأمة) أن يتحدوا تحت سلطان حاكم منهم وأن القرآن يحتوي على العديد من الأحكام الدستورية والوصايا السياسية والقانونية – أحكام لا يمكن تنفيذها إلا في نظام حكم إسلامي مستقل. ثم إن دلالة الأوامر المباشرة الواردة في القرآن الكريم مثل 4:59 (“وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”)64 قد تم تعزيزها بأوامر غير مباشرة لا حصر لها وإشارات لها في أكثر من موطن. على سبيل المثال،‏

(أ) ضرورة أن يكون المجتمع مجتمعًا متميزًا يُحظر على أعضائه عقد تحالفات مع الأجانب؛

(ب) الأمر بإقامة معاهدات الحرب والسلام والمعاهدات السياسية كمجتمع ذي سيادة؛

(ج) عدم طاعة أي قانون آخر في المجتمع غير حكم الله، وبالتالي يتطلب أن يكون المجتمع صاحب سيادة قانونية

(د) تطبيق الأحكام الشرعية في جميع مجالات الحياة المجتمعية، بما في ذلك قانون العقوبات، والحياة الزوجية والاجتماعية، والقوانين التجارية والمالية، وما إلى ذلك؛ وأخيراً،‏

(ذ) “سياسة خارجية” مميزة حيث أرسل النبي ﷺ رسائل إلى الملوك والأباطرة المجاورين (مما يعني التزام خلفائه بمتابعتها)، بالإضافة إلى حملاته التأديبية ضد مدعي النبوة مثل طلحة ومسيلمة وغيرهم من القبائل التي تصرفت بغدر وتمرد بعد دخول الإسلام65، وأمره بالتحضير لحملة تأديبية على الحدود الرومانية قبل وفاته مباشرة، وهكذا.‏

كل هذه العوامل تتطلب، بما لا يدع مجالاً للشك، أن يشكل صحابة النبي ﷺ مجتمعًا ذا سيادة وأن يسيطروا، إن لم يكن يحتكروا، على وسائل تطبيق القانون. ما سبق ذكره هي حقائق تاريخية لا جدال فيها تشير إلى أن ما فعله خلفاؤه إنما كان طاعة لأوامر الرسول ومواصلة لسياساته عليه السلام. من منظور تاريخي، لو لم يواصل الصحابة ثم الأمويون نشاط النبي ﷺ السياسي والعسكري، لما كان الإسلام أكثر من مجرد تقاليد قبلية منسية في التاريخ.‏

كانت السنّة أكثر صراحة في مسألة الخلافة. ذلك أنه توجد أحاديث كثيرة تأمر بالطاعة لمن سيخلف النبي ﷺ كما ورد في اقتباس ابن تيمية أعلاه. في الواقع، يبدو أن علي عبد الرازق لم يكن على دراية بأن العلماء قد تناولوا ما أثاره من نقاط بإسهاب. الجويني، كونه أشعريًا لم يقبل أحاديث الآحاد للوصول إلى اليقين، وقصر العلم اليقيني على الروايات المتواترة وحدها، لذلك فقد كتب عمله المذكور سابقًا لتقديم دليل قاطع على ضرورة الخلافة. في المقابل، ابن تيمية، الذي جادل بشدة لإمكانية إفادة اليقين من روايات الآحاد وعلى قدرة العقل على إقامة الفرض الديني، لم يتردد من استخدام العديد من الأحاديث الصحيحة في إثبات الأمر نفسه، بينما ذكر أيضًا الإجماع والحجج العقلية الأخرى.66

ومع ذلك، كان خطأ عبد الرازق الجسيم على مستوى المفهوم: يبدو أنه تأثر بما ظهر (في أوروبا) من تناقض بين الثنائية التي ظهرت آنذاك للدين والسياسة خلال إقامته في أوروبا، ولم يكن مدركًا أن هذه الثنائية كانت تقسيمات مضطربة وغريبة عن الإسلام تم اللجوء إليها مؤخرًا نتيجة النزعات الاستبدادية للحكام الذين استخدموا الدين لدعم وتبرير فسادهم. وبالتالي، لقد طبق بعضهم هذا على الدين والتاريخ الإسلامي. بالنسبة لأي شخص غير واع بشكل كاف على العلمانية الغربية، فإن إعلان بعض الأحكام القرآن والسنة “دينية” وغيرها “علمانية” يبدو اعتباطًا وغير مبرر. ومما أعطى هجوم عبد الرازق قوته هو أنه كان يعلم أهمية ما ينبني على الموضوع جيدًا: فهو لم يعبأ بالأدلة النقلية المذكورة أعلاه والخطاب التقليدي حول هذا الموضوع فحسب، بل ذهب إلى الوتين بمهاجمة أبي بكر وباقي الصحابة لقيامهم بحروب الردة التي كانت تلك هي الخطوة الأولى في سبيل ترسيخ السلطة السياسية المدنية في شبه الجزيرة العربية. ووفقًا لعبد الرازق، فقد اتفق الصحابة أساسًا، راضين أو مكرهين، مع أبي بكر على خوض حرب دنيوية باسم الدين ضد القبائل المسلمة الطيبة التي لم تفعل شيئا سوى مقاومتها سلطة المدينة فقط.67 وسواء أكان بقصد أم بغير قصد، فقد كان عبد الرازق على استعداد لأن يطرح جانبًا ليس الإجماع فحسب، بل أيضًا نزاهة أقرب الصحابة لرسول الله ﷺ، وهم نفس الرجال الذين أكد القرآن على عدالتهم، وعلى نزاهة إجماعهم باعتباره الضمان الوحيد لحفظ القرآن نفسه. يشكل هذا الاقتران (عدالة الصحابة وموضوعية ونزاهة إجماعهم) معًا أساس الإسلام.‏

الشوق إلى الخلافة

إن تقدير مدى شعور المسلمين العميق لفكرة الاستمرارية والوحدة المتجسدة في الخلافة، يساعد في فهم تأثير فقدان الخلافة وتمزقها تاريخيًا ليس فقط على المستويات السياسية ولكن أيضًا على المستويات العاطفية والثقافية. فقد قامت مثلا عالمة الدراسات الإسلامية منى حسن بتأريخ ثري لهذه التجربة في أعقاب تدمير المغول لبغداد عام 656/1258 ثم مرة أخرى بعد حوالي سبعة قرون في عام 1924.68

لقد أبقى العديد من العلماء الإسلاميين والنشطاء والحركات العابرة للحدود على فكرة اتحاد المسلمين على مدى القرن الماضي. في حين أن معظم هذه الجماعات تعتبر الخلافة المراد إعادة بنائها نتيجة ثانوية لأنشطتها النهضوية والإصلاحية، فإن القليل من هذه الحركات جعلت منها هدفها الأساسي. بالنسبة للجماعات الأكثر تكريسًا بشكل مباشر لإحياء الخلافة مثل حزب التحرير من فلسطين-الأردن، والتنظيم الإسلامي من جنوب آسيا، وكلاهما عالمي الآن، فإن الخلافة ليست مجرد ثمرة التعاون بين المجتمعات والدول الإسلامية التي تم إصلاحها ولكنها الغاية السياسية للنضال بالإضافة إلى الأداة لتحقيق الوضع المرغوب فيه ولدرء التهديدات الداخلية والخارجية للمسلمين.69 على مدار القرن العشرين، عمل القادة السياسيون الطموحون للدول الإسلامية على إنشاء روابط ومؤسسات على المستوى الدولي للتقدم نحو تعاون إسلامي أكبر. في حقبة السياسات التنموية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تفوقت سياسات الدولة القطرية إلى حد كبير على أي محاولات جادة في هذا المجال.70 اليوم، عادت هذه التطلعات إلى الظهور مرة أخرى.71 كانت الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل تلك المذكورة سابقًا، أكثر نجاحًا في الإبقاء على الفكرة حية. كانت أهم تلك المنظمات الإصلاحية الاجتماعية والدينية مثل جماعة الإخوان المسلمين (في البلدان الناطقة بالعربية) والجماعة الإسلامية (في جنوب آسيا) التي تسعى إلى استعادة الخلافة فقط كهدف بعيد، ولم تجعلها أبدًا هدفها الرئيس. فقط في أوقات الأزمات، مثل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يمكن للمشاعر الإسلامية الشاملة أن تجد تنفيسًا. في عصر ظهور الدولة (أربعينيات وثمانينيات القرن الماضي)، حشدت الحركات الإسلامية الجماهير لتولي دفة دول مختلفة. غالبًا ما فشلوا، وحيث نجحوا، كما في إيران والسودان، اكتشفوا غالبًا أن المنطق الداخلي العلماني لنموذج الدولة القطرية كان أقوى بكثير من تطلعاتهم الأيديولوجية وغالبًا ما استسلموا للقمع والفساد وخدمة الذات الإقليمية والجيوسياسية. لم تتجذر الدولة بجدية في العالم الإسلامي، وفي حين أن الإسلاموية الاجتماعية اكتسبت شعبية متزايدة، إلا أنها لم تفِ بوعدها. بقيت فكرة الخلافة على النار الهادئة كهدف نهائي يجب تحقيقه كخطوة أخيرة بعد تحقيق الديمقراطية والتقدم.72

الحاضردول فاشلة

بدأت الثورة العربية (1916-1918) وأمضت قرنًا من الزمن، والله يعلم كم ستطول مدة اللاشرعية السياسية وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط العربي. اليوم، المنطقة متشنجة بشكل متزايد. يلاحظ أحد المؤرخين المعاصرين، العلاقة بين سقوط الخلافة العثمانية بالوضع في الشرق الأوسط المعاصر من حيث سوء الأوضاع والضيق:‏

عتقد أنه من المعقول أن يكون الجميع متشائمين بشأن آفاق المنطقةلا يوجد حل قصير المدى لأي من هذه المشاكل.73

وبالمثل، في كتابه بعنوان “سلام ما بعده سلام” (1989)، كتب المؤرخ ديفيد فرومكين، معلقا على الإرث الأوروبي المستمر لتقسيم المنطقة:‏

إن استمرار المعارضة المحلية، سواء أكانت على أسس دينية أم على سواها، لتسوية ما بعد الحرب عام 1922 أو للافتراضات الأساسية التي استندت إليها تلك التسوية، يفسر السمة المميزة لسياسات المنطقةلا يوجد شعور بالشرعية في الشرق الأوسط – كما أنه لا يوجد اتفاق حول قواعد اللعبة– ولا يوجد اعتقاد مشترك عام في المنطقة، أنه ضمن أي حدوديحق للكيانات التي تسمي نفسها دولًا أو الرجال الذين يدعون أنهم حكام أن يعترف بهم على هذا النحووبالتالي، لا يمكن القول إنه تم تنصيب من يخلف السلاطين العثمانيين بشكل دائم.74

لقد أصبح مستقبل الدول القومية في البلاد الإسلامية اليوم، أقل ضمانة مما كان عليه في القرن الماضي. سبب واحد على الأقل هذا الأمر – وعلى حد تعبير أحد العلماء، فإن استحالة – الدولة القطرية هو أيديولوجي: الإسلام.75 وهذا يعني أنه بالنظر إلى الجذور العميقة للإسلام في هذه المجتمعات، فقد فشلت المحاولات البديلة لبناء الشرعية من خلال رؤية العلمانية – سواء القومية أو الإقليمية أو اليسارية الأممية أو غيرها. كما وصفها الباحث العربي نزيه أيوبي في دراسته المؤثرة “تضخيم الدولة العربية” (1996)، فإن الدول العربية في القرن العشرين – ما بعد الاستعمار – ليست قوية ولكنها شرسة – بمعنى أنها ضعيفة وغير شرعية وبالتالي شرسة.76 نظرًا لأنها لا تحوز على الولاء الواسع للناس (ولكن النخبة المستفيدة منهم فقط)، يمكنهم فقط تأكيد السيطرة من خلال القوة الغاشمة، والتي غالبًا ما يتم دمجها وإضفاء الشرعية عليها من خلال عوامل خارجية مثل التهديدات والعداوات الإقليمية (على سبيل المثال، إسرائيل، الصهاينة والصليبيون والعداء بين الشيعة والسنة وغير ذلك) واستغلال الانقسامات الدينية والعرقية. عندما أدركت النخبة فشل برامجها العلمانية، خاصة مع فشل القومية العربية بقيادة عبد الناصر، والإذلال المخزي للجيوش العربية على يد إسرائيل عام1967، كانوا يأملون في استغلال الإسلام بشكل أكثر فاعلية، ولكن النتائج كانت غير مبهرة لعدد من الأسباب.‏

أولاً، على الرغم من أن الحكام كانوا قادرين على السيطرة على بعض العلماء والمؤسسات الدينية، فإن الإسلام السني لم يكن أبدًا قابلاً للتسلسل الهرمي الديني، ومثل هذه المحاولات تولد أو تعزز دائمًا إدعائات بديلة منافسة للسلطة الدينية. ومن الأمثلة على ذلك محاولة الدولة المصرية السيطرة على جامعة الأزهر القديمة. ويجب أن يلاحظ أنه بالنسبة للإسلام، فإن كونه دينًا يعتمد على النص الشرعي، فإن انتشار معرفة القراءة والكتابة أوجد حركته المناهضة للسلطوية، إن لم تكن ضد رجال الدين، وذلك لدى المؤمنين. هذه هي نفس روح الإسلام التي أحبطت الطموحات المطلقة للأمويين (في شكل ثورات) ثم الخلفاء العباسيين (في شكل المقاومة البطولية للإمام أحمد بن حنبل) هي نفسها التي ترفض أن يتم التلاعب بها من قبل المستبدين العسكريين وملوك اليوم. العامل الأيديولوجي الآخر، وربما الأهم، الذي يعيق استخدام الإسلام في مشروع بناء الدولة القطرية هو الطبيعة العالمية للجماعة الإسلامية (الأمة) والطبيعة الإقليمية الجوهرية للدولة الحديثة.‏

كان لعدم شرعية الدولة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة عواقب وخيمة. لقد كان الإرهاب نتيجة مباشرة لا مفر منها. هذه الدول المتزعزعة والضعيفة والشرسة تحكم حتما من خلال القمع، وتحول السلطات الدينية والثقافية إلى مرتزقة ضد مجتمعاتهم. ومن أجل تسليح العولمة من أجل قضيتهم، قام الحكام المستبدون بتوظيف المرتزقة العالميين “العلماء” ضد العلماء المصلحين اجتماعيًا. ويتطلع المظلومون حتما إلى المجتمع الدولي الذي نادرا ما يساعد إلا عندما تحركه مصالحه الخاصة. وهذا يزيد من تعميق عدم شرعية الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم الثقة في أي من الإصلاحيين المحتملين (الذين يمكن أن يصفهم المستبدون الآن) بأنهم عملاء أجانب.‏

اللاهوت العلماني للدولة الحديثة

هذه المشاكل ليست عرضية ولكنها أساسية لأي دولة عليها أن تتعامل مع دين ذي قبول شعبي، وبالتالي لا يمكنها إعادة صياغته لأغراضها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الإسلام فريدًا من الناحية المفاهيمية في قدرته على تحدي الحداثة ليس فقط من الناحية الدينية ولكن أيضًا من الناحية السياسية من خلال مفاهيمه المقنعة المتعلقة بالانتماء والتضامن وسيادة القانون والتسامح مع التعددية. هذه الاستثنائية الإسلامية يدرك جوانبها العلماء الذين يدرسون الإسلام وكذلك أولئك الذين يبحثون في الناحية العملية له.77

لا يمكن لأي دولة قطرية الاستغناء عن المطالبة بالولاء شبه الكامل للدولة والبعد عن المصالح والتأثيرات الخارجية. فهي تضع القوانين وتنفذها وتتخذ قرارات الحياة أو الموت، وتجند المواطنين للقتل والموت من أجل مصلحتها. في دولة ديمقراطية ليبرالية ذات قضاء محايد، يُفترض أن هذا المطلب ليس تعسفيًا وأن سلطات الدولة تخضع للمحاسبة، لكن هذا نادرًا ما يكون هو الحال في الواقع. لقد أظهرت الديمقراطيات الليبرالية أنها عاجزة أمام الرأسمالية الإنتهازية وغير متوافقة مع الالتزام الديني وأخلاقيات المجتمع والمحافظة على البيئة. في ظل غياب أي مُثُل أخلاقية جماعية سامية، يتم التلاعب بالمواطنين في الدولة الحديثة إما من قبل الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات أو الديماغوجيين الإثنو قوميين، أو كليهما. سواء كانت ديمقراطية ليبرالية أم لا، فإن الدولة الحديثة في الواقع تعمل كحكم مطلق للقانون والأخلاق وحياة مواطنيها.‏

إن الدولة القطرية الحديثة، المعرفة بدقة، هي مؤسسة غريبة عن الإسلام في أي من أشكاله المعروفة. عدم التطابق هذا نوقش بقوة مؤخرًا في كتاب وائل حلاق المهم “الدولة المستحيلة” يبين المساحة المشتركة التي يعلمها علماء الإسلام والتاريخ الإسلامي. يؤكد حلاق أن الدولة القطرية الحديثة هي مؤسسة تفتقر إلى الأخلاق، إن لم تكن غير أخلاقية. وهي موطن غير مناسب للإسلام. ومع ذلك، فإن النتيجة التى توصل إليها تستند على فكرة معينة عن “الدولة”، وقد تسبب هذا في الكثير من الارتباك بين غير المتخصصين. وبالتالي، فإن الاستطراد لتوضيح هذا الادعاء أمر مناسب.‏

إن قضية ما إذا كان يمكننا استخدام مصطلح “دولة” لوصف الأشكال الإسلامية المبكرة للحكم ومتى يمكننا ذلك، تعتمد على كيفية الجواب على السؤال الشائك المتعلق بتعريف هذا المصطلح. لقد غزت الدولة الحديثة العالم المعاصر وسيطرت على خيال الناس في كل مكان بحيث صارت تهدد كل فهم تاريخي ومعه أي بديل أصيل وممتد تاريخيًا لها. يتفق المؤرخون الفكريون الأوروبيون عمومًا على أن مفهوم الدولة ظهر في أوروبا بين عامي 1300 و160078 نتيجة لعدد من التطورات المحددة. إن ما يميزها عن أي شكل سابق من أشكال الحكم هو اتفاق عدد من المفاهيم التي بنت الدولة على أنها “قوة مطلقة لكنها غير مشخصنة”: (أ) الدولة كنظام قانوني ودستوري منفصل يحكم بصورة مجردة منفصلة عن الملك أو المسؤولين الذين يشغلون مناصب، (ب) الدولة كمصدر وحيد للقانون، باستبعاد الله أو الكنيسة أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة، داخل أراضيها، و (ج) الدولة باعتبارها الشيء الوحيد المناسب لأن يكون ولاء مواطنيها له.79 وبالتالي فإن العلمانية، والإقليمية، والتجريد (أي اللاشخصية)، والسيادة هي بالتالي العناصر الضرورية للدولة الحديثة. يتناقض هذا التعريف المتطرف للدولة الذي يستخدمه المؤرخون مع التعريفات البسيطة الأكثر استخدامًا، مثل التعريف الذي قدمه تشارلز تيلي، الذي يرى الدول على أنها “منظمات تمارس الإكراه وتختلف عن الأسر ومجموعات القرابة وتمارسه بشكل واضح الأولوية في بعض النواحي على جميع المنظمات الأخرى داخل مناطق كبيرة“.80 من المؤكد أن النظام المديني كان يمثل مثل هذه “الدولة” بحلول الوقت الذي توفي فيه النبي ﷺ، وهي دولة توطدت أكثر بنهاية عهد أبي بكر. ومع ذلك، فإن هذا الاستخدام الأخير للمصطلح غير دقيق للغاية بحيث يكون ذا مغزى محدد، وإذا أردنا السير مع د حلاق، فإن من الأفضل هنا أن نستخدم مصطلح “حكومة” أو، الأفضل من ذلك، “حكم” بدلاً من “دولة” للتعبير عن الأشكال الإسلامية للسلطة السياسية التي كانت موجودة فيما قبل الحداثة.‏

بالمعنى الحرفي للكلمة، فإن الدولة الحديثة هي مؤسسة مجردة وغير شخصية بمعزل عن أي أفراد أو سلالات معينة تتولى زمام الأمور. ونظرا لكونها تطورًا أوروبيًا في القرن السابع عشر، فهي نوع جديد من القوة الغريبة عن الدين أو الفقه الإسلامي. لطالما اقترح الفلاسفة والمؤرخون السياسيون أن الدولة، كمؤسسة، فإنها تتولى السلطات التي تخص الله في المسيحية التقليدية. وإذا أردنا الإقتباس عن كارل شميت في مقالته “اللاهوت السياسي” ربما الكلمات الأكثر اقتباسًا في النظرية السياسية الحديثة هي حسب كلامه:‏

جميع المفاهيم المهمة للنظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية تمت علمنتها ليس فقط بسبب تطورها التاريخي – حين تم نقلها من اللاهوت [المسيحيإلى نظرية الدولة، وحيث أصبح الله كامل القدرة مثلا هو واضع القانون – ولكن أيضًا بسبب بنيتها المنهجية، والتي يعد الاعتراف بها أمرا ضروريًا للنظر السوسيولوجي لهذه المفاهيم.81

الشيء الواضح الذي يجب ملاحظته هنا هو أن الأصول الدينية وادعاءات المفاهيم السياسية هي التي تحدد ما هي الدولة الحديثة: السيادة (سلطة شبيهة بالله لا جدال فيها لسن القوانين وتقرير الاستثناءات منها)، الأرض (منطقة محدودة حيث السيادة العليا هي للدولة)، والمواطنون (المؤمنون بعظمة الأمة وماضيها الأسطوري)، والمواطنة (الحقوق الممنوحة للأفراد على أساس العلاقة بالدولة، والمحجوبة عن غير المواطنين)،82 وما إلى ذلك. لكن النظرة الأعمق، كما أعتقد، هي الإشارة إلى البنية الأيديولوجية العلمانية للدولة. إنها ليست مساحة فارغة يمكن ملؤها بأي أيديولوجية، لكنها تمتلك واحدة خاصة بها. وهذا ما أشار إليه وائل حلاق في المقطع التالي:‏

تفترض الخطابات الإسلامية الحديثة أن الدولة الحديثة هي أداة حكم محايدة، يمكن تسخيرها لأداء وظائف معينة وفقًا لاختيارات وإملاءات قادتها. [يمكن تحويلها إلى] … دولة إسلامية تطبق القيم والمثل التي يكرسها القرآن وتلك التي أقامها النبي ﷺ ذات مرة في “دولته الصغيرة” في المدينة المنورة. …[هذا ادعاء خاطئ، وفقا لحلاق]. الدولة لا بد وأن تنتج تأثيرات مميزة معينة سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، ومعرفية، وليست بشكل أقل، نفسية، وهذا يعني أن الدولة تصوغ أنظمة معرفية معينة تحدد بدورها المشهد الطبيعي بالتالي تحدد وتشكل مشهد الذاتية الفردية والجماعية وبالتالي الكثير من معنى حياة رعاياها.83

أحد أسباب هذه القوة الأيديولوجية للدولة هو أن الدولة هي المشرع والقاضي والجلاد الخاص بها. تنتقل هذه القوة الهائلة والشاملة إلى كيان مجرَّد في الظاهر، ولكن في الواقع، دائمًا ما تمارسه مجموعة من الرجال. علاوة على ذلك، يتم فرض سلطات الدولة الحديثة هذه (بالطبع دائمًا بشكل انتقائي) من قبل القوى العالمية باسم الاتفاقية الدولية التي هي نظام الدولة القطرية. وعندما تبين أن قوة هذا الحيوان الأسطوري اللويثان (leviathan) قادت إلى سلطة مطلقة بلا قيود، ولدت عندئذ أفكار الضوابط والتوازنات المؤسسية وفصل السلطات المنصوص عليها في الدستور والعمليات الديمقراطية. ومع ذلك، فإن كل هذه الضوابط والتوازنات موجودة ضمن إطار الدولة. في الديمقراطيات غير الكاملة (هل توجد ديمقراطيات كاملة؟)، تصبح شمولية هذه القوة أكثر وضوحًا، وغالبًا ما يصبح الفصل بين السلطات أقل فعالية. ولكن، كما حاول العديد من المؤرخين القانونيين إثباته، فإن نظرية الفصل بين السلطات لا تصمد في الواقع حتى في الدول القومية الأكثر تقدمًا من الناحية المؤسسية مثل الولايات المتحدة.84 عندما تتصرف الدولة كفاعل أوحد، كما في أوقات الأزمات الحقيقية أو المصطنعة، أو الحروب والانتصارات – التي يحتمل أن تكون مستمرة أو حتى دائمة – فإنها تعمل كقوة مطلقة، “إله البشر”، مثل اللوثيان مخلوق أسطوري ذو قوة غير محدودة – كما تخيلها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز.‏

لا تكمن المشكلة التي لا يمكن التغلب عليها في الإسلام في أن الحكام كأفراد قد ينفردوا بالسلطة أو يخوضوا الحروب، أو يطبقون سياسات تمييزية، أو عمليات إعدام تعسفية، وكلها شرور يمكن فهمها وحقائق لا مفر منها في الحياة السياسية. إذ لطالما شعرت السلطات الدينية بالحرية في الإستدلال بالأحكام الشرعية لانتقاد الحكام وتوجيه اللوم لهم، حتى أنها في بعض الأحيان تبرر التمرد المسلح. بدلاً من ذلك، فإن المشكلة هي “استحالة” الدولة الحديثة ضمن الإطار الإسلامي. وكما جادل حلاق وآخرون، فإن الدولة هي الأعلى وذلك بحكم تعريفها وهيكليتها. فالآراء والمؤسسات الدينية مرخصة من قبل الدولة وليس العكس. ويجادل هؤلاء العلماء بأنه حتى لو كانت النخبة في الدولة “مسلمة” أو “إسلامية”، فمن الناحية الهيكلية لا يمكن للدولة الحديثة أن تكون إسلامية، إنها علمانية وتعمل على العلمنة. ومع ذلك، فإن كونها علمانية لم يمنع أبدًا نخبة الدولة في أي مكان، بما في ذلك أوروبا وأمريكا، من استغلال الدين لتحقيق غاياتهم. لذلك، فإن فكرة الدولة الإسلامية هي تناقض لفظي، والتجارب العملية للدول التي زعمت أنها إسلامية على مدى العقود العديدة الماضية تزيد الأمر توكيدًا.‏

هناك أمر آخر، وأكثر واقعية، لا يمكن قياسه مع متطلبات السيادة الإقليمية للدولة الحديثة، وهو أن الإسلام لا يتحمل أي تمييز في حقوق وواجبات المسلمين على أساس الانتماء الإقليمي أو الإقليمي. هناك الكثير من النصوص الشرعية التي تأمر بالتضامن والتعاضد وتجعل من المستحيل عزل المسلمين في منطقة ما عن احتياجات وحقوق وثروات ومعاناة المسلمين الآخرين إلا على أسس مؤقتة وعملية. إن العمل للرد على اضطهاد الروهينجا والأويغور والفلسطينيين والكشميريين هو إذن أمر قرآني مباشر لجميع المسلمين، وهو أمر لا يخضع تطبيقه إلا لاعتبارات المسافة والإستطاعة. إن الهيكل السياسي الذي يقيد ولاءات الأفراد للحدود الإقليمية للدولة هو في الواقع على خلاف جوهري مع الإسلام. والأمر الأكثر إشكالية بالنسبة لمطالب أية دولة إقليمية هو أن ولاء مواطنيها يرجع لسلطة دينية نابعة من خارج حدودها. لا تزال الشبكات العلمية والفكرية والصوفية المنتشرة والتي حددت بلاد الإسلام في الماضي تشكل تحديًا لمتطلبات الدولة القطرية. بالطبع، الاستقلال البلدي أو الإداري المحدود للحكومات الإقليمية أو الإقليمية ممكن بالفعل (ومرغوب فيه)، لكن السيادة التي تطالب بها الدولة القطرية تتجاوز ذلك كثيرًا. لذلك، من الضروري التمييز بين الدولة، وهي كيان مجرد ذي سيادة وبين الحكومة وهي اسم الجهاز الإداري والقانوني في منطقة ما. وبناءً على ذلك، يجب ألا ننخدع في تصورنا لشكل الخلافة المستقبلية في أنه يجب تدمير الحكومات والمؤسسات والمجتمعات المحلية والتاريخ لإنشاء دولة عظمى إقليمية.‏

يمكن توجيه العديد من الانتقادات الأخرى للدولة القومية، وقد تم توجيه بعضها بالفعل، لكن هدفنا ليس تقديم نقد شامل هنا، ولكن الهدف هو تقديم بعض الأسباب التي جعلت الدولة القطرية تحوز على مثل هذا الأداء المضطرب للغاية في أراضي الإسلام، وأيضا بيان لماذا قد توفر نهاية الدولة القطرية في الواقع فرصة تاريخية لإعادة بناء شكل أكثر إسلامية وإنسانية للوجود السياسي للمسلمين.‏

النظرة إلى المستقبل

إن أفكار الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، أقوى مما يعتقد عادة، سواء أكانوا مصيبين أم مخطئينفالعالم لا يحكمه حقا الكثيرون غيرهم.85

إن الانتقادات التي قدمتها في ما سبق للدولة الحديثة تقضي أن يتم تصور الخلافة المستقبلية ليس كدولة قومية عظمى، أو مجرد اندماج للدول القائمة، ولكن كنوع مختلف من الحكم الذي يستمد شرعيته من فلسفة سياسة مختلفة عن تلك التي تأسست في وستفاليا، أو القومية والعلمانية. وهذا لا يعني الابتعاد عن التجربة الحديثة واللجوء إلى نموذج جاهز يعود لما قبل الحداثة، وإنما يجب علينا أن نستمد الحكمة والاستفادة من الماضي أثناء التطلع إلى المستقبل، كما يتطلب منا توسيع أفق التفكير، والتفاعل مع التجربة المعاصرة خارج الأنماط المهيمنة. بمجرد أن نحرر أنفسنا من فكرة أن الدولة القطرية هي النموذج الواجب اتباعه (إلى أن يسمح لنا أسيادنا والكتب المدرسية الأجنبية بالتفكير بطريقة أخرى)، فإن الإلهام الكثير سينفتح من الماضي والحاضر.‏

إن فكرة استعادة الخلافة المبتكرة بعيدة كل البعد عن أن تكون غير واردة. هكذا كان تخيل العديد من المفكرين المسلمين المستقلين للمستقبل. لقد شارك الفقيه المصري المؤثر عبد الرزاق السنهوري (1895-1971)، وهو أيضًا الواضع الوحيد الأكثر أهمية للقوانين المدنية المصرية والعراقية والعربية الأخرى، في التزام واضح بإحياء الخلافة بطريقة منهجية وتقدمية:‏

بما أنه يستحيل اليوم إقامة نظام الخلافة الراشدة أو الكاملة، فلا مناص من إقامة كومة إسلامية ناقصة (غير كاملة) وذلك على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حاليا. هذا النظام الإسلامي الناقص يجب اعتباره نظاما مؤقتًا وهدفنا المثالي هو السعي إلى العودة مستقبلا للخلافة الراشدة … إن نظام الخلافة الراشدة التي يجب إقامتها مرة أخرى في المستقبل يجب أن يتصف بالمرونة. فكما رأينا، لا تفرض الشريعة شكلاً [إداريًا] محددًا للحكم على الإطلاق86

ثم يمضي السنهوري في تقديم هذه الشروط العامة لخلافة ممكنة ومؤثرة:‏

١. توحيد العالم الإسلامي.‏

٢‏. تطبيق الشريعة الإسلامية، و

٣. بعض السمات الدينية والسياسية. ويوضح هذه الأمور على النحو التالي:‏

أ. الفصل بين السلطات: كما يظهر التاريخ والخبرة أن تركيز السلطة في يد شخص أو جسد واحد يؤدي إلى سيطرة الجانب السياسي على الديني والأخلاقي.‏

ب. الإصلاح القانوني: أدى النظام الفقهي الإسلامي التقليدي (باستثناء النواحي الشعائرية والدينية) إلى الركود، الأمر الذي يجعل من الضروري إجراء بحث جاد وإحداث نهضة فكرية ما قبل تطبيقه عملياً.‏

ج. اللامركزية والمحلية: يُظهر التاريخ والخبرة أن وحدة العالم الإسلامي لا يمكن الحفاظ عليها بشكل ثابت في دولة شديدة المركزية، كما أنها غير مرغوبة من منظور الفقه الإسلامي؛ إن أي محاولة من هذا القبيل يجب أن تكون لامركزية مع قدر كبير من الحرية تعطى لكل منطقة لحكم نفسها.87

لم يكن السنهوري مجرد حالم. لقد وصفت دراساته اللاحقة بالتفصيل أنواع القضايا التي لا بد من مواجهتها في مثل هذه الحكومة متعددة الطبقات، وصولاً إلى أنواع اللجان لمختلف الشؤون الدينية وغيرها، والحساسية تجاه حقوق غير المسلمين وكذلك دول غير المسلمين – “أمم الشرق” –‏

في هذا السياق، تمثل البنية الدستورية للولايات المتحدة واحدة من أفضل حالات التصور السياسي التي شهدها العالم الحديث، ولا يمكن لأي جهد معاصر للتفكير السياسي أن يتجاهلها. ولقد أشار الناقد اليميني جورج ويل مؤخرًا في مقابلة لكتابه The Conservative Sensibility إلى أن فشل محاولة إدارة بوش في إدخال الديمقراطية إلى العراق كان لأن العراق لم يكن به رجال مثل جون لوك الفيلسوف، وجورج واشنطن رجل الدولة، وألكسندر هاملتون الاقتصادي صاحب الرؤية البعيدة، ومجتمع أمريكا في القرن الثامن عشر. حجته الأكبر هي أن بعض العباقرة السياسيين هم من خلقوا النظام السياسي الأمريكي، والذي بدوره خلق ثقافة ووجهة نظر ضرورية لديمقراطية ناجحة. بعبارة أخرى، يحتاج المرء إلى كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة لتحقيق رؤية سياسية ناجحة: مجموعة من المُثُل المشتركة، ومجموعة استثنائية وشجاعة من المفكرين أصحاب الرؤية، ومجتمع جاهز للاستجابة لرؤيتهم. جورج ويل هذا لا يكاد يكون خبيرًا في العراق، ونظرته إلى أمريكا تستبعد جانبا كل الدماء والصدفة من تاريخها، لكن بعض آراءه صحيحة: الحاجة إلى أصحاب الرؤى البعيدة والقبول من المجتمع، وعلى وجه الخصوص، فشل الحلول المستوردة. والأهم من ذلك هو ملاحظة ويل حول إعلان الاستقلال الأمريكي: فهو يرى أن الغرض منه ليس اختراع حقوق تُفرض من أعلى إلى أسفل، ولكن تأمين حقوق وُجدت مسبقًا يعتقد على نطاق واسع أن الله منحها.88

نحن نرى أن الخلافة من الممكن أن تكون اتحادًا فيدراليًا للحكومات المحلية التي قد تُحكم ديمقراطياً أو بأي عدد من المؤسسات التقليدية أو صور أخرى غير مكتشفة للشورى – والتي أعني بها التمثيل والتشاور والمساءلة. الشريعة الإسلامية تعددية من الناحية القانونية ولا تسعى إلى فرض قواعدها المجتمعية على غير المسلمين. ويرجع ذلك إلى أن المفهوم الإسلامي للحياة المجتمعية والحكم ينطلق من القاعدة إلى القمة: لا يمكن أن يحكم الناس إلا من خلال القوانين التي يؤمنون بها. وهناك التزام آخر متعلق بالحكم الإسلامي وهو استقامة الأسرة والمجتمع. الالتزام الثالث بالتقاليد الإسلامية كما تطورت تاريخيًا هو الحكومة الصغيرة واحترام العادات المحلية. والملاحظ أنه عندما تخلت الدول القومية الحديثة عن هذه المعايير وحاولت فرض القانون الإسلامي على قانون الدولة، تبع ذلك انتهاكات كارثية.89

توفر كل هذه الالتزامات اللبنات الأساسية للتصميم الدستوري الذي يحتاج إلى موازنة الرقابة على سلطات الحكومة. باختصار، يتعين على التصميم المؤسسي لأي اتحاد فدرالي للحكومات الإسلامية في المستقبل أن يستخدم الأفكار الإسلامية التي وردت في تراثنا الفقهي، ولكن بنفس القدر من الأهمية يجب تبني المؤسسات المعاصرة المتوافقة مع هذه القيم.‏

هذه ليست دعوة لثورة عنيفة، لأن مثل هذه الثورات تستدعي حتما عهد إرهاب في أعقابها. إنها دعوة، بالأحرى، لحوار وممارسات جديدة في الإطار العام والمشترك للخلافة التي تأخذ المستقبل الجماعي للأمة الإسلامية العالمية على محمل الجد. إنها دعوة للمسلمين للسماح لأنفسنا بأن نحلم بأحلام كبيرة دون إهمال الالتزامات والواجبات الصغيرة الفورية، والتفكير عالميًا حتى عندما يتعين علينا العمل محليًا. إنها دعوة للحوار والتواصل وإعادة التفكير وإعادة تصور إمكانيات العيش سياسيًا كمسلمين. إنها دعوة للشباب المسلمين في كل مكان للتواصل مع بعضهم البعض متجاوزين الحدود المصطنعة وطرح أسئلة عملية وأخلاقية على أنفسهم:‏

كيف يمكننا الرد بشكل أفضل على فقدان الإيمان والولاء لله واللامبالاة وفساد النخبة؟ وكيف يمكن مساعدة اللاجئين المحرومين، ومساعدة إخواننا المضطهدين في الإيمان؟، وتسهيل التعاون الاقتصادي ؟، وتغيير المؤسسات السياسية؟، وتحسين الخطاب الديني؟، وإثراء الحوار والخطاب مع المسلمين داخل وعبر الحدود الطائفية والقومية؟، وتحسين التعليم والتواصل متجاوزين العديد من حواجز المسافة واللغة، والتحيز؟

يجب الإجابة على كل هذه الأسئلة بطريقة تهزم الحكام المستبدين وفي نفس الوقت تهزم الإرهابيين، ليس فقط في أيديولوجياتهم الخاصة ولكن أيضًا في تكتيكاتهم ووجهات نظرهم للعالم.‏

عندما كانت أنشطة داعش في ذروتها وكانت وسائل الإعلام الغربية تتنافس في نشر أكثر القصص إثارة حول الرؤوس المقطوعة والعمليات الانتحارية المجرمة، بصفتي باحثًا يعمل على هذا الموضوع في ذلك الوقت، أردت أن أتجاوز العناوين الرئيسية وأمسك بزمام الأمور بشكل شخصي في ما هي داعش في حقيقة الأمر. نظرًا لأنني كنت متشككًا بشأن المواد المخيفة الداعية للعنف والتي أنتجتها المجموعة خصيصًا لوسائل الإعلام الغربية، فقد بحثت في منشوراتهم (مثل المجلة المطبوعة على ورق صقيل، دابق) عسى أن أجد دلائل تفسر طبيعة الثقافة وراء العنف المتفشي وأحكام التكفير عندهم. لم يساعدني شيء على فهمها بشكل أفضل من التقارير الغامضة -والمتجاهَلَة إلى حد كبير- حول سلوك أعضائها وأنصارها فيما يتعلق بكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض. كان هناك العديد من القرائن التي خلقت الصورة: لقد تم التعامل مع المجندين الغربيين والأوروبيين والبيض على أنهم متفوقون، وتم منحهم مناصب قيادية من حيث السيطرة على الرسائل وحتى الاتجاه، أما المجندون من البلدان الأفقر والأدكن لونًا فقد تعرضوا للإهانة والتهميش بشكل روتيني. تم تعليم الأطفال العنف والكراهية منذ البداية، بدلاً من المعرفة والتفكير والتراحم. كان هناك استحضار منتقى للمعايير القانونية من المراجع الكلاسيكية، ولكن لم يكن هناك اهتمام بالتاريخ والسياق والتنوع؛ كانت رسالتهم المروعة نقيضًا لهذه الفضائل الضرورية جدًا للتقاليد الإسلامية. لقد علمت أن هذه الميزات لا يمكن أن تصنعها دعاية وكالة المخابرات المركزية، وقد كشفت هذه الميزات عن جوهرها. في حقل مليء بالدعاية الهائلة ونظريات المؤامرة، ساعدتني البيانات الواقعية مثل هذه على فهم هذه المجموعة من السفاحين الغاضبين والمختلين عقليًا، والمارقة والخوارج كما أخبر بها وأدانها النبي ﷺ الحبيب على أنهما “قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ “.90

إن السعي وراء نظام سياسي عادل لا يمكن أن يحل محل السعي وراء الصلاة الخاشعة، وطاعة الوالدين، والزواج الأفضل، والصداقات الأعمق، والمجتمعات المحلية القوية، والأهم من ذلك كله الاهتمام بتحقيق العدالة للمحرومين والضعفاء.‏

إن الحفاظ على الوضع الراهن في العالم الإسلامي هو حلم بعيد المنال. ولكن الحلم بتغييره ليس كذلك. النظام الحالي غير إسلامي، وغير أخلاقي، ومعادٍ لمستقبل لائق للمسلمين وإخواننا من البشر عمومًا. أولئك الذين يرغبون في الحفاظ عليه هم نخبة صغيرة ومتقلصة. ومن أجل الحفاظ على هذه الدول الاستبدادية، غدت هذه النخب ليس فقط إلى قمع أغلبيتها وقتل أو إسكات كل إمكانية للتفكير الأخلاقي المستقل، بل عمدت أيضًا إلى تشويه الإسلام بشكل كبير، وغسل دماغ المجتمعات الإسلامية. لا تختلف هذه الدول القمعية الشنيعة والفاشلة عن تنظيم الدولة الإسلامية إلا بشكل سطحي. إنهم يقومون بنشاط كبير في سبيل القضاء على الشعور الإسلامي بالتضامن وتغييره، وكذلك تضييق الخطاب الديني والفقهي والأخلاقي لخدمة مصالحهم حصريًا.‏

يجب علينا نحن المسلمين، حسب رأيي، إعادة تصور الخلافة على أنها اتحاد كونفدرالي للحكومات في قلب المناطق الأساسية للإسلام، والتي تحمي مجموعة من حقوق الإنسان للجميع، وتوفر الاستقرار السياسي والاقتصادي لهذه المناطق. وفي الوقت نفسه تسمح للمسلمين بتطوير مجموعة متنوعة من السياسات المحلية مع تبني الوحدة الدينية والثقافية الأكبر لهذه المناطق. مثل هذا الأمر لن يكون متوافقاً مع الأمر الإلهي فحسب، بل سيكون أيضاً البديل الوحيد .طويل المدى لمجموعة الطغاة والإرهابيين والتي يعزز بعضها بعضًا.

Notes

1 Diyar Guldogan, “Turkish Republic continuation of Ottoman Empire,” Anadolu Agency, 10 Oct 18, http://aa.com.tr/en/todays-headlines/turkish-republic-continuation-of-ottoman-empire/1059924 (Accessed 19 Decص2018). See also, Rashid Dar, “The Other C-word: Caliphate,” http://ciceromagazine.com/features/the-other-c-word-caliphate/2 Azadeh Moaveni, “The Lingering Dream of an Islamic State,” New York Times , 12 Jan 2018.

3 المرجع السابق

4 This observation was made by the Jewish-American constitutional scholar at Harvard University, Noah Feldman, in his The Fall and Rise of the Islamic State (Princeton University Press, 2008)

5 John Keane, The Life and Death of Democracy (W. W. Norton & Company, 2009): “The new democracy was a bastard. Its creation was unintended. Its survival at no point in time guaranteed. It was not inevitable” (161).

6 Sheldon S. Wolin and Nicholas Xenos (eds.), Fugitive Democracy and Other Essays (Princeton University Press, 2016).

7 هذه العبارة وردت تقريبًا حرفيًا في القرآن الكريم خمس مرات، انظر مثلًا سورة البقرة، الآية 216

8 هذه عينة صغيرة من هذه التقارير، بالرغم من المبالغات المعروفة للصحافيين الغربيين : “Despots are pushing the Arab world to become more secular,” The Economist , 2 Nov 2017, https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2017/11/02/despots-are-pushing-the-arab-world-to-become-more-secular; “The Arab world in seven charts: Are Arabs turning their backs on religion?” 24 Jun 2019, https://www.bbc.com/news/world-middle-east-48703377 .

9 Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order .(Touchstone, 1993/1996).

10 Benjamin R. Barber, Jihad Vs. McWorld (Ballantine Books, 1996).

11 John Gray, John, Endgames: Questions in Late Modern Political Thought (Polity Press, 1997).

12 Stephen D. Krasner, Sovereignty: Organized Hypocrisy ( Princeton University Press, 1999).

13 على سبيل المثال, Kenichi Ohmae, The End of the Nation-State: The Rise of Regional Economies (Free Press, 1995); Luigi Padula, End of the Nation-State: A Historical Perspective (2015).

14 Peter Dockrill, Business Insider, 6/26, https://www.businessinsider.com/climate-apartheid-united-nations-report-2019-6?utm_content=topbar&fbclid=IwAR0dWMoGnponY8r-OGuliWnanFKYdHb-U18AhytU35mkHYoenkzNhRQFTJg&utm_medium=referral&utm_term=mobile&referrer=facebook (Accessed 7/4/19).)

15 تم تقديم هذه الحجة في كتاب وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة والمأزق الأخلاقي للحداثة (مطبعة جامعة كولومبيا، 2012) ؛ يجادل حلاق بأن الدولة الحديثة ليست ترتيبًا محايدًا يمكن تغييره حسب الرغبة، كما اعتقد الإصلاحيون الإسلاميون في البداية، ولكنها ترتيب غير أخلاقي بشكل أساسي ولا يتوافق مع أي شكل معروف تاريخياً من الإسلام. يروي أندرو إف مارش، في كتابه الأخير “خلافة الإنسان: السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث” (مطبعة جامعة هارفارد، 2019)، قصة فشل محاولات أسلمة الدولة في القرن العشرين، ويشير إلى أسباب ذلك. تؤكد أطروحة حلاق: “إنها خطوة قصيرة من الادعاء الأيديولوجي السابق للثورة بأن” الدولة يجب أن تُدار بالقانون المقدس “إلى” كل ما تطلبه الدولة للدفاع عنها والحفاظ عليها ورفاهيتها هو القانون المقدس “( 225).

16 Salman Sayyid, Recalling the Caliphate (Hurst & Co. 2014), 190–911.

17 Richard A. Shweder, “Geertz’s Challenge: Is It Possible to Be a Robust Cultural Pluralist and a Dedicated Political Liberal at the Same Time?,” in Austin Sarat, Lawrence Douglas, and Martha Merrill Umphrey (eds.), Law without Nations (Stanford Law Books, 2010), 226.

18 Columbia University Press, 2018.

19 Arjun Appaduri, “Across the World, Genocidal States Are Attacking Muslims. Is Islam Really Their Target?,” Scroll.in , 22 May 2018, https://scroll.in/article/879591/from-israel-to-myanmar-genocidal-projects-are-less-about-religion-and-more-about-predatory-states (Accessed 29 May 2018).

20 The “War on Terror,” admittedly, has also been successful in making willing subjects out of Muslims. Thus, Sayyid, Recalling the Caliphate , 189-90: “Muslims have been the most visible targets of the War on Terror; they have been conscripted into an emerging political consciousness, by the never-ending war. They trade stories comedic (‘flying while been Muslim’), horrific (the visceral sadism in the force-feeding of the hunger strikers in Guantanamo) and heroic (daily grind of living under occupations in Palestine, Kashmir, Chechnya, and Burma). The conversations of the ummah are now irredeemably coloured by the War on Terror as Kemalists and Islamists adjust to the banality of its execution.” Many thanks to Mohammed El-Sayed Bushra for this reference.

21 Times of Israel , 9 July 2019, https://www.timesofisrael.com/liberman-future-peace-deal-with-palestinians-must-include-arab-israelis/

22 كما جاء في الحديث الشريف الذي روي عن صحابيين، ثوبان في سنن أبي داود رقم 4297 وأبي هريرة في مسند الإمام أحمد، وهو حديث صحيح

23 Foreign Affairs, Summer 1993, 72.3.

24 Azad Essa, “Muslims being ‘erased’ from Central African Republic,” Aljazeera , 31 Jul 2015, https://www.aljazeera.com/news/2015/07/amnesty-muslims-erased-central-african-republic-150731083248166.html (Accessed 19 Dec 2018).

25 Yale University Press, 2017.

26 David Wasserstein, “How Islam Saved the Jews,” https://kavvanah.wordpress.com/2012/06/04/how-islam-saved-the-jews-david-wasserstein/ (Accessed 7/4/19).)

27 Muslim # 1342.

28 بالنسبة للأدب الاستشراقي، انتشر الالتباس منذ باتريشيا كرون ومارتن هيندز، خليفة الله (1986). بالنسبة للأدب الإسلامي المعاصر، يتم إنتاج سيل لا نهائي من الأدب الذي يصف البشر بأنهم خلفاء الله. ربما كانت أول وجود لهذه الفكرة كان في التفسير الشهير لأبي الأعلى المودودي للقرآن باللغة الأردية، تفهيم القرآن

29 For a study of this phenomenon, see Andrew F. March, The Caliphate of Man: Popular Sovereignty in Modern Islamic Thought (Harvard University Press, 2019).

30 See the comparison chart in David Graeber, Debt: The First 5000 Years (2014), 272.

31 Noah Feldman, Fall and Rise of the Islamic State (2008), xxxix

32 Hüseyin Yılmaz, Caliphate Redefined: The Mystical Turn in the Ottoman Political Thought (Princeton University Press, 2018).

33 For more on the millet system, see Tesneem Alkiek, “Tolerance, Minorities, and Ideological Perspectives,” https://yaqeeninstitute.org/tesneem-alkiek/tolerance-minorities-and-ideological-perspectives/

34 Wadad Kadi and Aram Shahin, “caliph, caliphate,” in Princeton Encyclopedia of Islamic Political Thought , 85

35 Even though belief in (as a result of the dispute about the appointment of) the right imam was the defining problem for the Shiʿa, the list of the five well-known beliefs for the Imami Shiʿa did not become settled until the fifth/eleventh century; see Mohammed Ali Amir-Moezzi, “Early Shīʿī Theology,” in The Oxford Handbook of Islamic Theology, 82-3.

36 Patricia Crone, “Ibadis,” in G. Bowering (ed.), Princeton Encyclopedia of Islamic Political Thought (Princeton University Press, 2013), 230.

37 For a study of al-Juwayni’s political thought, see my article “Political Metaphors and Concepts in the Writings of an Eleventh-Century Sunni Scholar, Abū al-Maʿālī al-Juwaynī,” Journal of the Royal Asiatic Society, 26.1-2 (2016): 7-18. For an overview of the entire classical period and Ibn Taymiyya’s innovative political ideas, see my monograph Politics, Law, and Community in Islamic Thought: The Taymiyyan Moment (Cambridge University Press, 2012).

38 After a clear text in the Qur’an or a multiple corroborated ( mutawātir ) hadith, that is. Al-Juwaynī, Ghiyāthī, 39-43.

39 Yılmaz, Caliphate Redefined

40 ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/87

41 يلتزم المعتزلة والخوارج عمومًا بالواجب؛ فقط نفر قليل من المعتزلة، مثل هشام الفوطي، الذي جادل بأنه لا يمكن إقامة خلافة في الحرب الأهلية، وبالتالي إنكار خلافة علي. وكان النجدات من الخوارج المتعصبين الذين لم يعمروا طويلاً والذين حرموا جميع المسلمين الآخرين، وواقعيا، كان لهم إمام دائمًا، لكنه أنكر واجب وجود إمام واحد.

42 Ibid.

43 “ Inna naṣ b al-imām wājib qad ʿ urifa wujūbuh fī al-sharʿ bi-ijmāʿ al-ṣ aḥ āba wa-l-tābiʿ īn ,” Ibn Khaldun,

al-Muqaddima , ed. Muḥammad al-Iskandarānī (Beirut: Dār al-Kitāb al-ʿArabī,2006), 186 (Bk I, sec. 3, ch. 26); compare the translation by F. Rosenthal, abridged by N. J. Dawood in Ibn Khaldun, The Muqaddimah: An Introduction to History (Princeton University Press, 1967), 156.

44 H. A. R. Gibb, Studies on Islamic Civilization (Princeton Legacy Library, 1982 [orig. 1962]), 173.

45 لملخص لهذه الآراء أنظر Ṣādiq Nuʿmān, al-Khilāfa al-Islāmiyya (Cairo: Dār al-Salām, 2004), 26–27; ʿAbdallāh al-Dumayjī, al-Imāma al-ʿ uẓ mā ʿ inda ahl al-sunnah wa-l-jamāʿ (Riyadh: Dār Ṭayba, 1987), 45ff.

46 Alāʾ al-Dīn al-Ḥaṣkafī (d. 1088/1677), al-Durr al-Mukhtār , 75

47 The helpful notion of ‘problem space’ is proposed by anthropologist David Scott in his Conscripts of Modernity (Duke University Press, 2004)

48 انظر في هذا البحث أدناه: هل أقام الرسول دولة؟

49 Al-Dhahabī, Siyar , 3:372.

50 Al-Bayhaqī, Shuʿ ab al-īmān , 5:75114 vols., ed. Mukhtār al-Nadwī (Riyadh: Maktaba al-Rushd, 2003), 10:15; IbnTaymiyya, Minhāj al-sunna , 1:146.

51 Ibn Taymiyya, al-Siyāsa al-sharʿ iyya , 161–62.

52 Al-Māwardī, Aḥ kām , 27.

53 للزيادة في التفاصيل عن الأشكال التراثية للخلافة ونظريتها السياسية أنظر Politics, Law, and Community in Islamic Thought: The Taymiyyan Moment (Cambridge University Press, 2012).

54 For a discussion of the “strikingly egalitarian” nature of early Islamic society and their Qur’anic inspiration, “accentuated … by its conjunction with … Arab tribalism,” see L. Marlow, Hierarchy and Egalitarianism in IslamicThought (Cambridge University Press, 2002), 1-6; esp. 4.

55 Bukhari #4359.

56 Al-Kattānī, 99. The same view is adopted by Ibn Taymiyya, Majmūʿ Fatāwā , 35:33.

57 يتفقه العلماء، ومنهم الذهبي، والبيهقي، وابن كثير، على ضعف هذ الحديث. أنظرسير أعلام النبلاء للذهبي 3:131.

58 Ibn Taymiyya, Majmūʿ Fatāwā , 35:22

59 Michaelangelo Guida, “Seyyid Bey and the Abolition of the Caliphate,” Middle Eastern Studies 44.2 (2008), 275–89.

60 في حديثه عن السرعة التي قتل بها أتاتورك علماء الدين وحوّل ثقافة بأكملها، كتب هتلر بإعجاب في عام 1938 أن المستبد التركي “كان أول من أظهر أنه من الممكن تعبئة وتجديد الموارد التي فقدها بلد ما”. قال هتلر “كان أتاتورك مدرسًا”. كان موسوليني تلميذه الأول وأنا تلميذه الثاني..” Halil Karaveli, “Hitler’s Infatuation with Atatürk Revisited,” https://www.turkeyanalyst.org/publications/turkey-analyst-articles/item/367-hitler%E2%80%99s-infatuation-with-at at%C3%BCrk-revisited.html (Accessed 7/4/19). See also Pankaj Mishra, Age of Anger: A History of the Present (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2017), 131.

61 James Broucek, “The Controversy of Shaykh ‘Ali ‘Abd Al-Raziq,” Ph.D. Dissertation (University of Florida, 2012), 128.

62 وكان الذين كتبوا التفنيد من علماء القرن العشرين المبرزين: أحمد شاكر، ومحمد بخيت المطيع، ومحمد خضر حسين، ورشيد رضا، والطاهر بن عاشور. أنظر كتاب محمد عمارة مع كتاب معركة الإسلام وأصول الحكم (القاهرة: دار الشروق، 1989) لتحرير الإختلاف وعرض مفصل للحجج الأصلية ودحضها.

63 Quoted in Souad T. Ali, A Religion Not a State (The University of Utah Press, 2009), 73. See also James Broucek, “The Controversy,” 183; and Muḥammad ʿImāra, Maʿ rikat al-Islām

64 لدراسة التطور التاريخي للآراء في التفسير لهذه الآية أنظر كتابي باللغة الإنجليزية

65 Ṭabarī, Tārīkh (Dār al-Turāth), 3:186-7.

66 في جميع الاحتمالات، لم يكن عبد الرازق قد قرأ كتاب الجويني “غياث الأُمم” (الذي لم يكن متاحًا بشكل منشور)، ومنهاج السنة لابن تيمية، ومعظم الأعمال الكلاسيكية الأخرى حول الموضوع المتاح لنا، باستثناء كتابي الموردي وابن خلدون حيث أنه استشهد بهما. في أثناء اتصال شخصي، أخبرني الأستاذ أحمد الشمسي من جامعة شيكاغو أنه في حين تم نشر كتاب منهج ابن تيمية من قبل ناشري بولاق في 1903-1905، فإن كتاب غياث للجويني لم يكن متاحًا في شكل منشور في ذلك الوقت.

67 Abd al-Rāaziq, al-Islām wa-Uuṣ ūl al-Ḥ ukm , quoted in Broucek, “The Controversy,” 183; also ʿImāra, Maʿ raikat al-Islām , 395ff.

68 Mona Hassan, Longing for the Lost Caliphate: A Transregional History (Princeton University Press, 2017).

69 Reza Pankhurst’s The Inevitable Caliphate? A History of the Struggle for Global Islamic Union, 1924 to the

Present (London: C. Hurst & Co. Publishers Ltd., 2013).

70 Jacob Landau, Pan-Islamism: Ideology and Organization (Oxford: Clarendon Press, 1994).

71 See, e.g., Sayyid, Recalling the Caliphate , 189.

72 See, in particular, Sayyid, Recalling the Caliphate , chap. 5.

73 Justine Marrozi, “Forget Lawrence of Arabia, here’s the real history of the Middle East and World War I,” The National , 26 Feb 2015,https://www.thenational.ae/arts-culture/the-long-read-forget-lawrence-of-arabia-here-s-the-real-history-of-the-middle-east-and-world-war-1-1.640119 (Accessed 18 Dec 2018)

74 Fromkin, A Peace to End All Peace , 564.

75 Wael Hallaq, The Impossible State .

76 Ayubi, Overstating the Arab State (1996); see also, Sayyid, Recalling , 146, who names the contemporary Arab governments ‘the Mukhabarat state.’

77 See, for instance, Michael Cook, Ancient Religions, Modern Politics: The Islamic Case in Comparative

Perspective (Princeton University Press, 2014); Shadi Hamid, Islamic Exceptionalism: How the Struggle Over Islam Is Reshaping the World (St. Martin’s Press, 2016).

78 مرجع جيد في هذا الصدد، يوضح كيف أن الانتصار النهائي لنموذج الدولة القومية لم يكن حتميًا، هو هندريك سبرويت، الدولة السيادية ومنافسيها (مطبعة جامعة برينستون، 2006). شكراً لمحمد السيد بشرى على هذه الإحالة.

79 Quentin Skinner, The Foundations of Modern Political Thought , vol. 1 (Cambridge University Press, 1978), ix–x.

80 Tilly, Coercion, Capital, and European States, AD 990-1990 (Basil Blackwell, 1990), 1–2.

81 Carl Schmitt, Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty , trans. George Schwab (MIT Press, 1985), 36.

82 علاوة على ذلك، فإن الدولة الحديثة هي دولة قومية، من المفترض أن تحد من ولائها – “الولاء والبراء” – من خلال الحدود الوطنية

83 Hallaq, The Impossible State , 155-6.

84 المصدر السابق، واستناداً إلى هذه الدراسات والبناء عليها، جادل حلاق بأن عقيدة فصل السلطات غير فعالة في الدولة الحديثة بشكل عام، وقد تم توثيق عدم الفعالية هذا بشكل كامل في أكثر ديمقراطية مؤسسية، وهي الولايات المتحدة (انظر الفصل 3).

85 John Maynard Keynes, The General Theory of Employment, Interest and Money (Harvest/Harcourt Inc., 1964; orig. 1935), ch. 24, 383.

86 إسلاميات السنهوري باشا: الدكتور محمد عمارة الجزء 1 صفحة 335–

87 المصدر السابق

88 George Will, The Conservative Sensibility (2019), 157.

89 لأنواع المحادثات في النظرية السياسية التي تتطلبها هذه التأملات، أنظر , Chandran Kukathas, The Liberal Archipelago: A Theory of Diversity and Freedom (Oxford University Press, 2003).

90 هذا الحديث متواتر بطرق متعددة عن جمع من الصحابة، ومنهم علي بن أبي طالب، وقد رواه البخاري في صحيحه برقم 6930، ومسلم برقم 1066

Discover more

Colloquium | Prospects of Ummatic Economic Unity

March 22, 2024
Ummatics Colloquium

Ummatics Istanbul Seminar | Is Palestine a Muslim Issue?

March 14, 2024
ummaticsdev

The Umma in International Relations: Presence and Effectiveness

March 14, 2024
Ummatics Colloquium

Search

Search

Navigate

Search

Sign up to our Newsletter